مشهدان وقاموس

أهداف سويف
أهداف سويف

آخر تحديث: الأربعاء 26 أكتوبر 2011 - 9:30 ص بتوقيت القاهرة

عقلى يلِف ويدور ويرجع لمشهدين قريبين: مجموعة من الرجال كبار السن، شاب شعر رءوسهم أو صبغوه فصار أسود مشوبا بالحمرة ــ موضة كرَّسها الرئيس المخلوع فاعتدناها فى رموز نظامه، يرتدون الزى الرسمى، ويجلسون فى مكان رسمى، تحوطهم مظاهر الأبهة الرسمية من جدران مبطنة بالخشب وأعلام وتشكيلات زهور، يتكلمون بوقار وثقة تصاحبهما ابتسامة خفيفة. إجاباتهم أقرب للتصريحات وتصريحاتهم حاضرة، ليس هناك سؤال فى الكون كله سيضطرهم للتوقف لحظة للتفكير ــ ناهيك عن إعادته، لا يساورهم أدنى شك فى سلامة آرائهم واستنتاجاتهم ومواقفهم بل وعظمتها، يُشِعّون أبوية ويقينا وجمودا. عندهم من الأموال ما لا يحصى، ومن السلطة ما لا يساءَل، ومن الكتائب ما تأتمِر.

 

 والمشهد المقابل: مجموعة من الشباب، ملابسهم وهيئاتهم ــ بل وقصّات شعورهم ــ المتنوعة تشى بتباين خلفياتهم، جمعت بينهم مظاهرة سلمية، وأكمل الاستشهاد تكاتفهم، فتشابهت تعبيرات الوجوه وتشابكت الجثامين على أرض المشرحة والأرواح على باب الجنة.

 

كانوا، قبل أن يستشهدوا، قبل أن يُقتَلوا، شبابا كباقى الشباب المعنى بأحوال البلاد: ملابسهم وهيئاتهم ــ بل وقصّات شعورهم ــ المتنوعة تشى بتباين خلفياتهم، تراهم فى الشوارع وفى البيوت وعلى المقاهى، لا ينقطعون عن الحوار والنقاش والجدل، تجرى النكات والقفشات والأشعار وتتواثب فى خطابهم، يرقصون من الفرحة ويتقافزون من القهر، يبكون ويحترقون حبا لبعضهم وللحياة وللوطن، ولا يحتكمون على شىء سوى أصواتهم، وأجسادهم، وأرواحهم.

 

●●●

 

فى أول تعارفنا بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة، دخل علينا بإيجابية شديدة: يحبُّنا، نحن الشعب، ويقر بمشروعية مطالبنا، ويتعهد بسلامتنا، بأن «قواتكم المسلحة لم ولن تلجأ لاستخدام القوة ضد هذا الشعب العظيم، الذى لم يبخل على دعمها فى جميع مراحل تاريخه المجيد، ونؤكد أن قواتكم المسلحة هى الدرع الواقية، والحصن الأمين لهذا الشعب العظيم، وحمايته من الأخطار المحيطة به وأن تراب هذا البلد ممزوج بدماء المصريين على مر التاريخ، فحافظوا عليه». وفى ١١ فبراير، حين سقط محمد حسنى مبارك، أعلن المجلس (البيان رقم ٣) أنه يتدارس كيفية الوصول إلى تحقيق آمالنا، آمال الشعب فى «إحداث تغييرات جذرية» وأنه «يتوجه بكل التحية والإعزاز لأرواح الشهداء». فتصورنا يومها أنه فهم الثورة حتى وإن لم تكن على مزاجه تماما، وأننا متفقون أن شهداءنا الثمانمائة وخمسين، ومصابينا الذين زادوا على الأربعة آلاف، هم ثمن هذه الثورة، دفعناه من لحمنا الحى؛ ثمن باهظ لثورة سلمية، وأن الدولة الجديدة ستضع هذا الثمن الذى دُفِع فى مركز وعيها، فسترعى مصابيها، وتخلد شهداءها، وتبجل أهلهم عمليا ومعنويا بما يليق وجليل مصابهم وعظيم عطائهم.

 

فما الذى حدث؟ ما الذى حدث يا سيادة المجلس؟ وما هذا المسخ الذى نعيشه؟ التراب يُثَمَّن بالدماء، فلنغرقه فيها. الشهداء نحييهم، ثم «نفرزهم» ونتباطأ فى القصاص لهم ونكَرِّم قتَلَتهم ونذل أهاليهم. التاريخ يزخر بالجنرالات كبار السن والمقام الذين بطريقة أو أخرى يتسببون فى تدمير أو مقتل الشباب. تصورناكم مختلفين. فى مارس كنت فى الخارج وكان السؤال فى كل محاضرة أو عرض «وماذا عن الجيش؟ ألا تخشون العسكر؟» وكنت أجيب بتصريحاتكم، وبقَسَم القوات المسلحة، وبتاريخها، وبارتباطها بالشعب وارتباط الشعب بها. فما الذى حدث؟ لماذا يُقتل مينا دانيال وهو شاب جميل ومشروع قيادة وذخيرة للوطن؟ لماذا يعاقَب مايكل نبيل ــ وأهله ــ بهذه القسوة المفرطة، لآراء سواء اتفقنا أو اختلفنا معها تظل آراء؟ ولا أحدثكم هنا من منطلق إعلان ميثاق حقوق الإنسان ــ الذى وقعت عليه مصر، بل من منطلق إعلان اللواء إسماعيل عتمان «ان حرية التعبير، بالطرق السلمية مكفولة للجميع»، فما هو غير الـ«سلمى» الذى اقترفه مايكل نبيل؟ لماذا يُستدعى بهاء صابر وعلاء عبدالفتاح للمثول اليوم أمام النيابة العسكرية؟ لماذا تهدر كرامة شبابنا أمام السفارة الإسرائيلية؟ على ماذا يحاكمون وهم الغيورون على سلامة جنودنا وهيبة قواتنا المسلحة؟ بأى حق يحاكَم مدنيونا عسكريا ويُحبَس منهم اثنا عشر ألفا؟ اثنا عشر شابا يا سيادة المجلس؟ ومنهم أولاد قُصَّر يُحبَسون فى سجون الرجال. من يرى كل هذا يظن أن العدو المتربص بمصر هو شبابها.

 

بالتأكيد لديكم إجابة.

 

أهى الفتنة؟ تضرب بين الجيش والشعب؟ كانت الفتنة فى العهد البائد هى الوقيعة بين المسيحيين والمسلمين، وبين المعدومين والمستورين، فانضمت لها فى عهد الثورة التى تحمونها الوقيعة بين الشعب والناشطين، وبين الجيش والشعب. هل يمكن معالجتها؟

 

أم المشكلة ثمة التباس فى اللغة، فى المصطلح أو المنطق؟

 

بعد اللقاء التلفزيونى الأخير وجدت نفسى أعود إلى شريطين مصورين لسيادة المشير طنطاوى، أولهما فى الفيوم فى أول هذا الشهر، والثانى بعده بيومين فى المنيا. ولى عليهما بعض الأسئلة أرجو أن يتسع الصدر العسكرى لها؛ فى الشريط الأول يقف المشير وإلى جانبه الأستاذ الدكتور عصام شرف الذى يبدو على محياه الهم الواضح كالعادة، وحولهما مجموعة من الرجال أضع استجابات بعضهم لكلام المشير بين قوسين. يقول المشير ببشاشة:

 

«كل الشعب لازم يتكاتف. احنا يعنى صابرين صابرين صابرين.. عشان مصر مايتقالش عليها إنها.. شايفين اللى حوالينا؟ شايفين اللى حوالينا؟ عايزينا نبقى كده؟ (لأ!) ماهو م الأول كان ممكن نبقى كده، (صح!) ومافيش حد قال اضرب واحنا قلنا لأ، مافيش كلام زى ده. وانا هابقى خاين لربنا عشان اقول حاجة تانية؟ أنا راجل صادق. وهافضل صادق، ومقاتل، أربعين سنة باقاتل، أكتر من أربعين، باقاتل وهقاتل، بقاتل أولا عشان مين؟ (مصر! مصر!) عشان ربنا. وعشان مصر. مش عشان حاجة تانية».

 

الأسئلة:

 

ــ هل رأى سيادة المشير الشعب فى التحرير وميادين مصر الأخرى فى يناير وفبراير؟ ألم يكن هذا هو التكاتف فى أبهى صوره؟ التكاتف الذى أبهر العالم فصاروا يسترشدون به اليوم فى الاحتجاجات التى تعم كوكبنا؟ تُرى ما الجديد الذى طرأ على حياة شعب مصر بعد ذلك؟ وكيف أثر هذا، برأيه، فى تكاتفه؟

 

ــ «مصر مايتقالش عليها انها..» انها إيه بالضبط؟ وهل المهم هو ما يقال عن مصر؟ أم المهم ما يحدث فى مصر؟

 

ــ حيث إنه لم يطلب أحد إلى القوات المسلحة ضرب الثوّار، لماذا وردت إمكانية أو فكرة الضرب أصلا؟ هل تتشاور القوات المسلحة، عادى يعنى، فى أن تضرب المواطنين العُزَّل حين يقومون بنشاط سلمى؟ وإن كان كذلك فما الذى يحكم القرار؟

 

ويقول المشير فى المنيا:

 

«الشباب هو الأساس فى كل شىء، والشباب دهه، هو كان اللبنة، أو اللبنة الرئيسية، فى ثورة يناير، واحنا معاه، واحنا، يعنى، سندنا الشباب، والثورة نجحت بس المهم هو استمرارية الثورة، إن شاء الله هتستمر، وأول حاجة حننجح فيها، هو ان احنا نجيب منشآت، أيوه منشآت دستورية حرة، مدنية، على أساس سليم، وبعدين مصر هتنطلق، بمين؟ بالشباب...»

 

الأسئلة:

 

ــ إذا كان الشباب هو أساس كل شىء فلِمَ يُقتَل ولِمَ يُذَلّ ولِمَ يهدد ولِمَ يُحبس؟

 

ــ ما هى الثورة؟ وكيف تستمر؟ بكل جدية. يعنى الـ«استمرار» ده شكله إيه؟ يبدو من توجهات المجلس، ومن كلام سيادة اللواء العصار فى اللقاء التلفزيونى، أن الـ«استمرار» المطلوب هو استمرار على نهج الحياة «العادية» ما قبل الثورة، النهج الذى يرى، مثلا، أن تستمر القيادات الجامعية المرفوضة فى مناصبها إلى أن تكمل «مدة تعيينها القانونية». ومعنى هذا أن نضع (٢٥ يناير إلى ١١ فبراير) فى صندوق جميل محكم من الخشب المطعم بالصدف، ونضع إلى جانبه سبت ورد ونظلل عليه بعَلَم ونبدأ يومنا بأن نضرب له تعظيم سلام، وبعدين نعيش عادى. هل الثورة هى حدث بدأ فى ٢٥ يناير وانتهى فى ١١ فبراير وكانت غايته الإطاحة بأسرة مبارك وبعض من حولها، وخلاص؟ أم الثورة هى عملية مستمرة من الانتقاد، والاتهام، والتحرى، والهدم، والتنظيف، والتخيل، والجدل، والاتفاق، والبناء، تهدف إلى توفير حياة ذات خصائص معينة للمواطن المصرى تمكنه من العيش بكرامة ومن تحقيق قدراته ومواهبه وطموحاته والنهوض ببلاده فى شتى المجالات والأوجه؟

 

يجب أن نتفق على قاموس مصطلحات وإلا لن يبقى بمصر شباب «ينطلق» بها حسب ما يريد سيادة المشير ونريد جميعا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved