داء النفاق المزمن

خولة مطر
خولة مطر

آخر تحديث: الإثنين 26 أكتوبر 2015 - 3:35 ص بتوقيت القاهرة

يصطف المنافقون فى أوطاننا وخارجها.. يتحلقون حول بعضهم البعض بل ويكونون مدارس جديدة فى فن النفاق تحت مسميات عدة منها البراغماتية أو الواقعية أو حتى العلو فوق مستنقع الواقع المؤلم.. يتعايش الجميع معه أى النفاق وفيما كنا فى التاريخ والدين والعادات والتقاليد نكره النفاق والمنافقين وندعو إلى نبذهم، أصبحنا اليوم نبرر لهم إن لم نكن نطبل وننظم لهم فى أقرب نقطة.. يتلون النفاق ويتحول إلى شكل أو جزء من المؤسسات العامة خاصة منها تلك الحكومية أو الإقليمية والدولية.

أصبح اليوم أهم درس يعلمه البعض لأطفالهم منذ أول درس فى الحياة، هو أن تنافق حتى «تمشى حالك» أو حتى تصل وتحتل المناصب العليا. يعمل النفاق بأشكال متنوعة فمنه الفج جدا حد الغباء ومنه الأكثر تعقيدا وصعوبة فى تصنيفه ضمن النفاق العلنى إلا بعد دراسة وتمحص به.

لنأخذ بعض مواقف الدول الكبرى التى لا يمكن وصفها سوى بالنفاق المطعم بالدبلوماسية المتأصلة فى مؤسسات أصبحت أكثر بيروقراطية من كثير من الحكومات التى توجه لها ملاحظاتها الدائمة. كما أن المنافقين الذين ينتقدون النفاق صباحا ومساء وفى خطاباتهم الرنانة خاصة منها تلك التى تكون فى المؤسسات الدولية ثم نفس هؤلاء يمارسون النفاق علنا وهم يقرعون كئوس وانخاب انتصاراتهم التى تسمى الدبلوماسية الذكية.

أصاب داء النفاق الجميع انتشر كالوباء وأصبح غير المنافقين هم من الأقلية وهم المنبوذون فى المرافق والمؤسسات والشركات وفيما كان النفاق وسيلة للوصول إلى المناصب العليا فى الدوائر الحكومية فقط وخاصة العربية منها، انتشر فأصاب البنوك والشركات الكبرى حين تختلط الكياسة والمجاملة بالنفاق التام.

يتحلق المنافقون حول الموائد العامرة ويلتقون فى جلسات مطولة لتعزيز تلك الثقافة المتجددة فى فن النفاق. يعمل كل فرد منهم على جمع اكبر عدد منهم ليخلقوا شيئا شبيه بالأندية الخاصة جدا التى تشكل حلقة من حلقات الوصول الاجتماعى ليس فقط فى الوظائف بل وأيضا فى الانضمام إلى الاحتفالات والحفلات الخاصة والجمعيات التى تبدو هى الأخرى مرتبطة بإحساس عالى لدى المنافقين بمسئوليتهم الاجتماعية تجاه مجتمعاتهم. جمعيات تتحول مع الوقت إلى شكل من أشكال الوجاهة الاجتماعية ويصبح الانضمام اليها مقتصرا على اختيارات دقيقة تبدو فى مجملها مرتبطة بالانضمام إلى شريحة المنافقين نفسها.

***
لا يضر أن يكون النفاق اختيارا شخصيا للوصول إلى الدرجات العليا وتسلق الرتب والرواتب، ولكن المحزن حقا هو أن تغرس هذه الثقافة لدى الأطفال منذ صغرهم، انظروا للتشوهات التى لحقت بأجيال من الأطفال الذين كبروا فى ظل ثقافة تجبرهم منذ الصغر على ممارسة النفاق بأشكاله المتنوعة. قليل من الأهل يعون ذلك وهم يجرجرون أطفالهم من هنا وهناك للسلام على المسئول أو الحاكم وبوس الرءوس والانحناء المهين والاستماع لقصائد المديح الخائبة فى الشعر وفى الثقافة معا. كل هذا الكم لا يمكن ان يخلق جيلا سليما قادرا على اتخاذ قرار حاسم حتى ولو كان فى ذلك القرار خسارة وظيفية له أو لها ولكنه وبذلك يكون قد صدق مع نفسه وبقى امين على اخلاقيات ومبادئ تبدو الآن للكثيرين وكأنها من بقايا الماضى وعلينا ركنها فى المتاحف لتصطف مع التحف والمقتنيات النادرة.

الأكثر إثارة فى موضوع النفاق والمنافقين، إنهم يزدرون الآخرين الذين لا يشبهونهم بل ويحاربونهم فى الكثير من الأحيان ويصفونهم بالغباء والتخلف الاجتماعى وبأنهم غير «حضاريين» لا يستوعبون أن الزمن قد تطور والأمور تغيرت وعليهم هم أن يتحولوا ويتغيروا كما هو حال كل الكون. يعزلونهم فى زوايا خاصة يقتلون قدراتهم على العطاء ويقضون على كل الأفكار المبدعة التى تأتى منهم مراعاة لثقافة النفاق التى يشكل مثل هؤلاء خطر شديد عليها.

يجلس المنافق مع ثلة تشبهه يتحدثون بألفاظ منمقة ويرسمون صورا عنهم كانوا قد جلسوا لأيام يفكرون جليا فى كيفية رسمها ووضعها فى الإطار المطلوب. يدركون أنه لا وجود للعفوية فى قاموس المنافق المحترف لذلك فيكرهون العفويين حولهم، يصفونهم بالمتهورين واحيانا بالسوقيين وغير المهنيين. المهنية أن تنافق حتى تصل أو لا تصل أن تمدح فى مديرك وزميلك حتى ولو كان على خطأ بل وإن تغطى الخطأ أنت وهو معا وتحولوه إلى مجرد أمر عادى جدا وسبحان أو جل من لا يخطأ. ويعرفون أن الآخرين سيستمعون لهم فقط لأنهم قد حفظوا الكلمات المطلوبة لكل مناسبة فى قاموس خاص بهم ألا وهو قاموس المنافقين فى الزمن الصعب !

إذا كنا نتصور أننا ندفع ثمن بل أثمان باهظة لعدد من الأمراض المزمنة بمجتمعاتنا فعلينا أن ندرك أن النفاق أصبح الأكثر انتشارا والأكثر قبولا لدى الجميع بل والأكثر قدرة على الدفع بالفرد من الدرجات السفلى إلى أعلاها دون منازع فيما يبقى الحالمون الصادقون فى أماكنهم يحاربون على أكثر من جبهة ويناضلون من أجل حياة الآخرين التى تعنى لهم الكثير ومن أجل أوطان ومجتمعات لا تبنى على النفاق.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved