ليالي رشيدة

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 26 أكتوبر 2018 - 11:05 م بتوقيت القاهرة

كان الأفقُ مُمتدًا، والنجومُ حاضرة، والسلام يرفرف في الأجواء، ورشيدة تجد الخطوَ تكاد تهرول، حاملة في حضنها كراسات الأولاد، مُتأهبةً لمطالعة ما خطُّوا مِن أحرف وكلمات، مُستعدة ككل أيام الثلاثاء؛ لتوزيع الدرجات ورسم النجمات، وأحيانًا الكعكات.
لم تكُن الدروس الخصوصية التي تأخذ من وقتها الساعات، بحمل ثقيل تؤديه بلا روح؛ بل عمل تميل إليه، وتمنحه حقه مِن الانتباه والاهتمام، وإذا لم تكُن في المدرسة مساحة كافية لمتابعة الطلاب، وإذا لم يتوفر فيها مجالٌ لتمييز ملامحهم، والتعرف على أسمائهم ومشاربهم، وتقييم ملكاتهم وتنميتها؛ فليس سوى البيوت؛ تستوعب بين جدرانها ما ضاقت عنه الفصول.
***
تتقنُ رشيدةُ الشرح والإعادة، ولا تملُّ تكرار الإجابة، كما أنها على عكس المألوف؛ تنحو إلى الإتقان والتنقيح والتجويد، وتعد ما استطاعت مِن نماذج وأمثلة تزلل بها الصعوبات، وتصل إلى ما انغلق من أفهام، بل وتغدق على طلابها ما تجمع من معلومات. على مدار سنوات قضتها في مجال التعليم؛ لم تيأس يومًا ولا أحبطها المردود الكئيب، حافظت على حماستها، وحرصت على عدم فقدان مرحها وبشاشتها؛ فدروس اللغة العربية تحتاج كما تدرك بالسليقة؛ إلى ذهن يقظ، وبال يتمتع بما يكفي من الروقان.
***
عندما ظهر ذاك الفيلم الشهير منذ بضعة أعوام؛ راحت تتصور نفسها مكان البطل الهمام، تمسك بالخيرزانة الرفيعة، وتقرقع وسط الساحة، مهيبة بالأولاد أن يراعوا قواعد النحو والصرف، وأن يحترموا المفردات؛ فالمرفوع في واجباتهم اليومية يجري نصبه بلا سبب، والمنصوب يغدو كسيرًا، والمكسور بلا ذنب ولا علة؛ لا يجد فيهم مَن يجبر خاطره، ويعيد إليه حقه بلا نقصان.
***
وصلت رشيدة البيت دون أن تشعر بالمسافة التي قطعتها؛ إذ استولت عليها الأفكار واستغرقتها. أبدلت ملابسها، ثم تربَّعت على الأريكة وتناولت كراسًا، وضغط بتلقائية واعتياد زر التلفاز؛ فتوالت أمام ناظريها الإعلاناتُ، تحكي عن كومباوندات وبيتشات ولاجوون وريزورتات. بعد نصف ساعة تقريبًا، حان موعد رسالة المهرجان؛ فانتبهت رشيدة قليلًا ونحَّت جانبًا الكراس.
***
ظهرت فنانة شابة لا تعرف اسمها، لكنها بالتأكيد ذات قامة رفيعة، فقد استقبلتها المذيعة باحتفالية خطابية عظيمة، ثم راحت تمجِّد في قيمة أعمالها، وتثمِّن روعةَ اختياراتها؛ بما زاد من انتباه رشيدة.
بدأ الحوار بتبادل الاحتفاء، وبكيل المديح والثناء، وقد راحت الكلمات الأجنبية تتقافز على اللسانين، وتنحشر بين نظيراتها العربية؛ حتى لم تعد هناك جملة واحدة نقية، ومع الاستفاضة في التحيات والسلامات، تصاعدت الوتيرة، فلم تُسمَع تقريبًا كلمة عربية سليمة، ولدهشة رشيدة التي لا تلم إلمامًا راسخًا سوى باللغة التي تخصصت فيها، راحت الفنانة الجميلة تطوع المفردات الإنجليزية، فتجمعها وتثنيها وتضبط أفعالها؛ بل وتصرفها صرفًا عربيًا خالصًا، ثم تضيف الياء إلى المضارع منها، وتثبت النون لما يحتاج التثبيت.
***
هزت رأسها رشيدة، وقلبت شفتها وعادت إلى الكراسات، وجعلت تهش بيدها وتنش، مُستخدِمةً مَضربَ الذباب، ثم مسحت زجاج نظارتها وأمسكت بالقلم الأحمر علامة الاستعداد، وفتحت كراسًا، وجعلت تجر خطًا وراء خط أسفل عديد الكلمات؛ إذ لم يكن من فارق في بين مذكر ومؤنث في معظم الفقرات. "لا بأس" قالت لنفسها؛ ربما كان تلميذها من أنصار المساواة بين الرجال والنساء.. ربما قرأ مثلها عن الجدال الطويل الذي دار ولا يزال، حول بنية اللغة الفرنسية، وعن محاولات تحييدها بما يرفع عنها عبء التحيز والعنصرية؛ فراقته الفكرةُ، وقرر تبنيها وتطبيقها. أمسكت بكراس ثانٍ؛ فراعها تكرار الكلمات، كأن من كتب لا يملك في جعبته سوى بضع مُفردات؛ يعيدها وينقشها بلا كلل أو سأم. تناولت الثالث؛ ولما عجزت عن استجلاء ما خطَّ صاحبه في صفحات وصفحات؛ أزاحت الكراس، وعادت تحدق في الشاشة بعد أن أخرست صوتها؛ آملة أن تتحسن الحال.
***
استرجعت رشيدة كتاب المطالعة الرشيدة، وحصة القراءة والمكتبة الصغيرة، بل وكراسة الخط التي استهلكت من عمرها -وهي بعد تلميذة صغيرة- لياليَ ومساءات. تذكرت أيضًا حنقها حين اكتشفت أن الجهود الحثيثة التي بذلها المسؤولون لتطوير المقررات، أسفرت عن قرارات حاسمة بالتخفيف عن الطلاب، واستبعاد بعض الدروس، وحذف أسئلة المُترادفات والمُضادات؛ إذ لا حاجة لأحد بمعرفتها، ولا فائدة تتأتى من ورائها؛ خير الكلام ما قلَّ ودلَّ، ولا داعي لطول اللسان، وفصاحة البيان؛ كلَّما تدنت الحصيلةُ وتقلَّص عددُ الكلمات، قَلَّت القدرةُ على المُجادلة والمُناقشة، وتضاءلت فُرصُ طرح الأفكار والتساؤلات.
***
مرت شهور منذ سمعت بين الأروقة والحجرات عن قانون؛ يوفر للعربية ما يليق بوزنها ومكانتها بين اللغات، لكن القانون تبخر واختفى، ولم يخرج لساعته إلى النور. لم تُصِبها الدهشةُ ولا ألحَّ عليها الفضولُ؛ فاللغة لا تحتل مكانًا في قائمة الأولويات، والحديث عنها يلوح من الُمرهِقات المُخجِلات.
***
ضغطت الزرَّ فأغلقت التلفاز، ولاذت بالإذاعة كعادتها في الليالي التي يغشاها الأرق؛ تتحرى ما يشفي أذنيها مِن حمق الكلام، وما يلطف أثر الحوار مُتهالك الصياغة، مُتهتِّك البناء. راحت تدير المؤشر إلى أن استقر على قصيدة تغنيها الست، فأيقنت أن ليلتها ستنعم كليالٍ سالفة بصفاء البال، ليالٍ تتجاوز فيها ما يقضُّ المضاجع إلى ما يطبِّب الجراح ويرشِّد الآلام. ليالي رشيدة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved