معضلات قطاع السياحة

كريم ملاك
كريم ملاك

آخر تحديث: السبت 26 أكتوبر 2019 - 9:55 م بتوقيت القاهرة

ربما من أكثر المقولات المأثورة عن قطاع السياحة هى جملة «السياحة تَمرَض ولا تموت». لست أدرى إذا كانت هذه الجملة تنطبق على قطاع السياحة فى آخر تسعة أعوام، فصحيح تم غلق عدة فنادق ومنشآت سياحية، لكن حدث كذلك فى قطاع الصناعة على سبيل المثال. لكنى أتصور أن ما تم مع قطاع السياحة فى آخر عدة أعوام لم يكن نتيجة تفشى مرض الركود الاقتصادى فحسب، بل عملية اغتيال ممنهج مِن عدة أطراف بعضهم من القطاع نفسه، وبعضهم ممثلون فى الحكومة وبعضهم من الخارج.
لعل هناك مقولة أكثر ملاءمة تلخص قطاع السياحة مثل «إذا عطست الحكومة مرضت السياحة وإذا كحت الدولة ذهب قطاع السياحة للمستشفى»، فكل حادث أمنى يمس قطاع السياحة، وكل تضييق على المجتمع، إن كان ضحاياه أجانب أو مصريين، يضرب السياحة. فشريطٌ صغير على قنوات التلفاز مثل «مصر تحارب الإرهاب» يضرب السياحة. فلذلك نفضل أن نقول حادثا إجراميا بدلا من حادث إرهابى، فكل دولة لديها مثل هذه الحوادث.
سيقول القارئ غير المقتنع إن مصر تعانى من استهداف داخلى من قبل جماعات مسلحة واستهداف خارجى من قبل مؤامرات تتربص بسمعة مصر لضربها ولضرب مصالحها وتضخيم كل حادث مؤسف لكارثة. وها أنا ذا أعترف وأقول هذا كله صحيح ولكنى أزعم أننا متواطئون دون ان ندري بخيبتنا مع هذه المؤامرة الخارجية عبر سياسات وزارة السياحة التى تجرى وراء شركات السياحة الكبرى أو عبر عمليات الاستحواذ على فنادق مصر.
فبدلا من تحسين قدراتنا الأمنية تصرف وزارة السياحة الملايين على حملات دعائية، وتركز اكثر علي مؤتمرات وبيانات إعلامية وسفريات كثيرة، كأن كل ما يتبقى لمصر هو العنصر الدعائى. تقوم وزارة السياحة بالترويج لأرقام قياسية لأعداد السياحة لكنها لا تفصح عن آلية احتساب السائح ومنهجية الاحتساب. وإحقاقا للحق، لا نرى أى مسئول لديه رؤية فاحصة للقطاع تشمل ليس فقط الأرقام، بل فاعليتها وتأثيرها. هل هناك من يعترف أن أعداد السياح فى مصر زادت نتيجة تدهور وضعف الجنيه أمام العملات الأجنبية، وأن بارتفاع تكاليف الإنتاج المحلية أصبح هامش الربح للقطاع أقل؟ هل نجد من يعترف ويقول لنا إن أعداد السياح ربما زادت لكننا لم نرَ هذه الزيادة فى الدخل؟
***
قضية الأرقام والإحصاءات لديها أبعاد حساسة لكن وزارة السياحة لا تعى مثل هذه الحسابات، فكل اهتمامها إحصائى ترويجى لنجاح صورى لا حقيقيا، وكأننا فى مصر تحولنا لمجتمع الأرقام والبيانات التى لا تُناقش وتعتبر أمنا قوميا. مضت وزارة السياحة فى برنامج الإصلاح الاقتصادى EــTRIP المستوحى من برامج إعادة الهيكلة المشئوم من البنك الدولى وصندوق النقد الذى يرتكز حول حلول تهدف لرفع يد الحكومة عن القطاع وإحداث تغييرات هيكلية فى بنية القطاع عبر تغيير آلية احتساب الإحصائيات السياحية. هذا هو الشرح المعلن الرنان عن البرنامج ،ولكن لا أحد يعى ما يحتويه ومدى تأثيره على الأرض لدى قطاع السياحة.
وللعلم فإن مصر قامت بالاعتراض على مثل هذه البرامج التى دعا إليها صندوق النقد ورفضت مصر مؤخرا عملية مراجعة أصول بنك الاستثمار القومى من قبل خبراء صندوق النقد وذلك لما كان سيُفصح عن أصول مصرية وأموال مشاريع لا تحتسب داخل الميزانية، الأمر الذى استدعى رفض هذه الإصلاحات والإفصاح عن هذه البيانات. وإذا كان القارئ يشكك فما عليه أن يقوم بقراءة الصفحة الخامسة من تقرير صندوق النقد الخامس الصادر فى أكتوبر عام ٢٠١٩ المتوفر على الإنترنت. ففى هذا التقرير ما يلخص مراجعة صندوق النقد لأداء الاقتصاد المصرى والإصلاحات المطالبة بها مصر مقابل قرض الصندوق لمصر، لكنه لا يخجل فى ذكر أن مصر لم تقم بهذه الخطوة.
إذن عملية الإحصاء مهمة، وأحيانا تُرفض لما يمكنها أن تُحدث من خلل أو أخطاء جسيمة مثلما كان سيحدث حال موافقة وزارة المالية على مقترح إعادة هيكلة بنك الاستثمار القومى ومراجعة أصوله. ويا ليت وزيرة السياحة علمت بخطط وزارة المالية فى رفض مقترحات صندوق النقد الإحصائية وطرق احتساب الإحصائيات بدلا من طريقة الاحتساب القائمة التى تفترض أن السائح يدفع رقما ثابتا مرتبطا بمدة الإجازة التى يمكثها، لكن للأسف لا تعمل الوزارات معا بل فى معزل عن بعض.
***
فهل لدى الحكومة الشجاعة أن تعترف أن السياح الذين يأتون لمصر لا يقومون بإدخال كل ما يدفعوه لمصر؟ تقوم الشركات الأجنبية Tour Operator ببيع الرحلة السياحية شاملة الإقامة والسفر والأكل بأسعار عالية لكن تقوم بخفض مستحقات شركائها المحليين وتقوم بجنى أرباحها عبر استغلال الفارق فى الأسعار. فعلى سبيل المثال بدلا من أن يجنى الفندق أو المطعم أو المحل السياحى ما يبيعه للسائح مباشرةً، فيتم تعميم رسم للرأس فى صورة رقم ثابت ويعطى للشركاء بدلا من نظير السعر الذى تبيعه شركة السياحة الأجنبية للسائح. فعلى سبيل المثال هذا ما تفعله توماس كوك حينما تبيع رحلات سياحية لمصر التى دائما تكون أعلى مِن ما يُدفع لقطاع السياحة فى مصر وشركائها المحليين، إذا كانوا فنادق أو شركات سياحية، بمعدلات متفاوتة أقلها الثلث. ويا حبذا إذا كانت شركة السياحة الأجنبية تمتلك فنادق محلية أو لديها شراكات حصرية مع فنادق وشركات سياحة محلية، ففى هذه الحالة تكون نسب الأرباح وما يدفعه السائح مقابل الخدمة الشاملة tourist package ربما أعلى بنسبة ٥٠٪ أو أكثر.
لكن هناك من فهم اللعبة مبكرا وقرر أن يؤسس لنفسه شركة مصرية بالخارج تروج لنفسه ، لكن للأسف، مَن يقدر أن يتنافس أمام مَن ينبطح أمام شركات استعمارية أجنبية ؟ لست أقول هذا كتعبير مجازا، لكنه حقيقة تاريخية. علي سبيل المثال أسس توماس كوك شركته فى القرن التاسع عشر بعد أن ظهر كرجل أعمال متخصص فى استغلال فوارق أسعار النقل، فاشتغل أولا بقطاع القطارات ثم النقل البحرى عبر البواخر. ثم إذ فجأةً قرر أن يقدم خدمة جديدة مع تذاكر السفن: استراحات فندقية للسياح. جاء لمصر فى عام ١٨٦٩ تلبيةً لدعوى ديليسبس حين افِتُتِحَت قناة السويس. سطع نجم كوك فى أعوام ١٨٦٠ ــ ١٨٧٠ حين أعلن أنه نظم رحلات لأكثر من ٢ مليون سائح حتى أصبح حديث الساعة فى إنجلترا وحتى أصبحت كل الصحف الإنجليزية تحمل دعاية لرحلاته.
بدأ نشاط شركة توماس كوك فى مصر فيما سُمىَّ بالرحلة الكبرى التى كانت تشمل مصر، وفلسطين، وسوريا ولبنان. بدأت هذه الرحلة فى عام ١٨٦٩ مع افتتاح قناة السويس. كانت تكلفة الرحلة من لندن للإسكندرية فى عام ١٨٦٩ عشرين جنيها إسترلينيا أما رحلة الأراضى المقدسة فكانت تتكلف مائة وخمسة استرلينى لأنه كانت مدتها سبعين يوما. بعد أن وصل الخديوى توفيق للحكم ما لبث الأمر حتى قام كوك بالتودد إليه وسمى أحد بواخره على اسمه، الأمر الذى سمح لكوك أن يستمر فى عمله المربح فى مصر. وبعد عام ١٨٨٢ حين وصل الاحتلال الإنجليزى لمصر، نجح كوك فى انتزاع حق نقل الجنود الإنجليز من مصر للسودان عبر بواخره، وأصبح الرأسمالى كوك إحدى أدوات الاستعمار الإنجليزى.
ما كان يجذب السياح لشركة كوك لم يكن فقط كونه يقدم أسعار نقل أقل، مما قلل هامش ربحه، لكنه كان اختراع جديد فى القرن التاسع عشر: فكرة الريزورت «Resort». كانت هذه الفكرة تعتمد على تقديم المدينة أو المقصد السياحى للسائح كى تكون تحت أمره، إما عبر تغيير البيئة المحيطة أو عبر تسخير المصريين لتغيير مناظر الريزوت كى تطابق ما كانوا يتوقعون. وبهذا نجح توماس كوك أن ينمى هامش ربحه على حساب العنصر المحلى وما كان يستقطعه شريكه المصرى البسيط. نجح كوك أن يحقق هامش ربح ضخم عبر استغلال الأصول المصرية نتيجة علاقاته السياسية مثلما نجح فى إقناع الخديوى بإسناد خدمة النقل النيلى له وإعطائه الحق الحصرى لنقل السياح عبر مياه النيل. وبهذا نبتت فكرة العقود الحصرية التى للأسف هناك من يتهافت ويتسابق من أجلها حتى اليوم، مفضلا أن يكون شريكا لرأس المال الأجنبى بدلا أن يسترزق بعرق جبينه الشريف. حرقت مكاتب شركة توماس كوك فى حريق القاهرة يوم ٢٦ يناير ١٩٥٢ واغلقت المكاتب مؤقتا. أما اليوم، فقامت شركة توماس كوك بالإفلاس وأصبح هناك مديونية كبيرة لدى قطاع السياحة المصرى تنتظر قرار الحارس القضائى المعين لإدارة أصول الشركة فى لندن. كل من راهن على شراكة حصرية مع توماس كوك وسعى وراء أمجاد الحِقبة الزمنية الاستعمارية الجميلة مثل الخديوى توفيق، كى يحمل اسم توماس كوك وكأحد وكلائه، لم يتبقَ شىء له. ولعل هذا هو الدرس الذى يجب أن نلتفت إليه اليوم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved