معركة الزى المدرسى فى كل من مصر وفرنسا

ايمان رسلان
ايمان رسلان

آخر تحديث: الإثنين 26 أكتوبر 2020 - 9:10 م بتوقيت القاهرة

تؤيد المحكمة الدستورية العليا صحة القرار الذى أصدرته وزارة التربية والتعليم المصرية عام ١٩٩٤ والخاص بالزى المدرسى ومنع النقاب وترفض الدعوة ببطلانه... تذكرت الحكم وحيثياته التى تضمنتها ٢٦ صفحة سطّرها بحروف من النور د/ عوض المرــ رئيس المحكمة وقتهاــ وكان مضمونها يؤكد على أهمية الزى المدرسى ودور الدولة ووحدتها التعليمية وعن الإسلام وزى المرأة أيضا. واسترجعت الحكم كأنه يحدث الآن وذلك على خلفية المعركة الحالية حول ضرورة ارتداء الإيشارب أو الحجاب للفتيات الدائرة بالمدراس المصرية الآن كجزء من الزى المدرسى أو باعتباره رمزا إسلاميا للمرأة، وظاهرة الانفصالية الإسلامية فى فرنسا وما تناوله الرئيس الفرنسى ماكرون فى خطابه ٢ أكتوبر الماضى عن أهمية الوحدة والتربية ودور المدرسة والدولة فى ذلك وهو ما لم ينتبه له الكثيرون وللجزء التعليمى والتربوى الهام فى خطابه؟
***
«يجب أن ترتدى الإيشارب على رأسك غدا لكى نسمح لك بدخول المدرسة مجددا واخلعيه خارجها بعد انتهاء اليوم المدرسى».. هكذا خاطبت المسئولة بمدرسة بلبيس الرسمية للغات التلميذة ريم بالصف الأول الإعدادى، ذات الـ١٣ سنة.. وفى نفس التوقيت كان حادث طعن لفرنسيات من أصل جزائرى يرتدين الإيشارب وكان قبلهما الحادث الأبشع لذبح مدرس التاريخ بفرنسا. كل الأحداث الثلاثة عنوانهم الكبير هو التعليم وقضاياه وفى جوهره قضية المرأة وملابسها خاصة أن الأحداث وقعت فى شهر واحد؟
واقعة مدرسة بلبيس ليست الأولى ولن تكون الأخيرة بالتأكيد، ولذلك تستلزم التوقف عندها خاصة بعدما أصبحت عنوانا بارزا فى الأخبار و«الهاشتاج» أيضا داخل مصر وخارجها، مما استدعى تحرك المجلس القومى للمرأة فأصدر بيانا وخطابا يطلب فيه من وزير التربية والتعليم التحقيق فى الواقعة بعدما تقدم ولى الأمر بشكوى رسمية من تعرض ابنته الطفلة للإهانة والتنمر (الازدراء) وتهديدها وإجبارها على ضرورة وضع إيشارب على رأسها (حجاب) لدخول المدرسة باعتباره جزءا من الزى المدرسى!... فهل ستحقق الوزارة أم ستعتبرها ــ طبقا لتصريحات سابقة ــ حالات فردية فقط مع أنها أصبحت ظاهرة عالمية؟!
الاهتمام بهذه القضايا خاصة أنها يصاحبها عنف حتى لو لفظى لا يقل أهمية عن الاهتمام بالتطوير التكنولوجى، بل هو الجوهر الحقيقى للتعلم والتطوير، وعلى المؤسسة التعليمية أن تؤسس لقواعد التفكير والمنطق ودراسة الظواهر والتاريخ، ومنها ظاهرة فرض الإيشارب، مع فك هذا الارتباط الشرطى والأكواد الاجتماعية له التى تربط بين الإسلام كدين وبين ضرورة ارتداء الإيشارب المتعدد الألوان أو الحجاب.
ترسيخ مفهوم أن غطاء الرأس متلازم بالمرأة والفتاة المسلمة فقط هو من خلق تيارات سياسية دينية من الإسلام السياسى، سواء الإخوان أو السلفيين، فى إطار صراعهم على السلطة والحكم.. وهذا ليس رأيا أو كلاما مرسلا وإنما هو معلومات مثبتة ومن تصريحات واعترافات قيادات الإخوان وغيرهم، إبان فترة حكمهم لمصر عقب ثورة يناير٢٠١١... فحينما تمكنوا سياسيا اعترفوا بحيلة فرض الحجاب لإظهار قوتهم وتأثيرهم فى المجتمع وهو ما ذكره كوادرهم فى فيديوهات مسجلة التى مازالت موجودة حتى الآن على مواقع التواصل الاجتماعى، وكذلك فى مذكرات وكتب قياداتهم مثل د/ عبدالمنعم أبو الفتوح.
وخطورة الأمر الآن هو عدم حسم الوزارة، فمع كل وزير يأتى نبدأ من أول السطر فى قضية الزى المدرسى، مع أنه حدث سابقا فى التسعينيات حينما أصدر د/ حسين كامل بهاء الدين قرارا بمنع النقاب، وأن يكون ارتداء غطاء الرأس بتوقيع من ولى الأمر وفى المرحلة الثانوية، ويمنع للأطفال فى مرحلة التعليم الأساسى.. وهو القرار الذى أيدته المحكمة الدستورية، كما ذكرت، بأسباب دوّنها المستشار عوض المر فى ٢٦ صفحة تناولت الدين الإسلامى وعلاقة الزى به وبالتعليم... أى أن القرار الوزارى أصبح محصنا دستوريا، فلماذا لم تستدعه الوزارة من أرشيفها بدلا من ترك الأمور ووصفها بالحالات الفردية؟
***
من المثير للدهشة أنه فى نفس الوقت تقرر وزارة التربية والتعليم تدريس منهج وكتاب مقرر على الطلاب عنوانه حق الاختلاف وقبول الآخر.. بل إن منهج وكتاب التربية الدينية فى التطوير الجديد يضع صورة المرأة والأم بغطاء الرأس حتى داخل المنزل. بينما نفس الأم والمرأة فى كتب اللغة العربية والإنجليزية لنفس السنة، وكما كتبت العام الماضى، بدون غطاء الرأس!. هذه المواقف هى ما تساعد على شيوع الارتباك لدى التلاميذ والمعلمين فيتصرف كل بمفرده واجتهاده وبما يحمله من مقولات ترسخت فى عقله من هذه التيارات السياسية.
السكوت يعنى ضمنيا الرضا، أو على أقل تقدير لا يعطى للموضوع أهمية كأهمية التعليم عن بعد والامتحانات على التابلت، فأصبحت المناهج تحصيل حاصل وتطوير التعليم بالأجهزة هو الحداثة والتحديث، الأجهزة التى يستخدمها الجميع الآن بمن فيهم الإرهابيون والمتطرفون وكل بطريقته لتمرير أفكاره... ولكن التقدم الحقيقى والحداثة يأتى من تطوير فكر المجتمع الجالس خلف الأجهزة أو التابلت والذى أصابه على مر السنوات غزوات التيارات الدينية السياسية والتناقضات الكثيرة.
تطوير مضمون التعليم يبدأ من مؤسسة التعليم الرسمية كما تضمنتها مواد الدستور والذى يشير فى مادته ١٩ بوضوح إلى دور ومهمة المؤسسة التعليمية بقوله أن مهمة التعليم الحفاظ على المواطنة وعدم التمييز، وأن دور الوزارة تضمين تلك الأهداف فى المناهج ووسائلها ــ والمقصود بها القرارات الوزارية ودور المدرسة والمعلم.
دور التعليم هو المساعدة فى الاندماج وعدم خلق «الجيتو» لكل مجموعة وطائفة داخل المدرسة، التى هى للجميع... وهو ما جاء ذكره فى خطاب الرئيس الفرنسى ماكرون عندما تحدث عن دور المدرسة فى تنشئة الأطفال على الوحدة وليس الانفصال عن المجتمع وتكوين مجموعات لكل أصحاب ديانة. هكذا فهمت مضمون خطابه حول أهمية المدرسة، ولذلك كان قراره بأن تكون المدرسة الحكومية المجانية إلزامية من سن ٣ سنوات وللجميع، وألا يكون هناك تعليم خارج إشراف الدولة... أذكر أنه فى إحدى زياراتى الأخيرة لفرنسا التقيت بأسرة مسلمة كان همها الأول نقل ابنتهم بمرحلة البكالوريا من مدرستها الحكومية، التى تساوى الجميع فى الزى، ونقلها إلى مدرسة خاصة إسلامية بمدينة أخرى بعيدة للغاية والسبب الحفاظ على ارتدائها الإيشارب أو الحجاب... بمعنى آخر الأسرة توافق على ابتعاد ابنتهم عنهم والعيش بمفردها وهى فى سن المراهقة، ولكن لا تخلع غطاء الرأس! أليس هذا قريب الشبه لمنطق ارتدى الإيشارب بالمدرسة واخلعيه خارجها الذى تردده المدارس المصرية الآن.
وللحقيقة بعد متابعة ومعايشة المجتمع والأصدقاء وجدت أن ارتداء الإيشارب الآن يؤدى دورا رمزيا فقط فى الشكل للمرأة وكأن ذلك مقصودا للإعلان عن انطباع ما؟ ولا يمنع مثلا ارتداؤه مع بنطلون على أحدث خطوط الموضة أو حتى على فستان قصير!. وما أحب أن أؤكد عليه أن ذلك ليس معناه أننى ضد حرية الملبس، ولكن فى المؤسسة العامة وبالذات فى مراحل التنشئة الأولى كالمدرسة يجب ألا يكون الملبس دلالة على بعد تميزى أو طائفى أو دينى، ولذلك نحتاج قليلا إلى الهدوء بدون حالة التشنج الحالى لمناقشة هذه الظاهرة التى تفاقمت وأصبحت عالمية، وأن نفكك الربط بين الدين نفسه ممثلا فى القرآن وبين الأفراد وممارسات وصراعات التيارات السياسية على الحكم والسلطة التى مركزها استخدام المرأة تحديدا، سواء فى ملابسها أو سلوكها. فأصبح ظاهرة غطاء الرأس للمرأة معركة إيران منذ استيلاء الخمينى على السلطة، وفى طالبان، وتركيا الآن فى عصر أردوغان، وقبلهما الإخوان فى مصر والمنطقة العربية، وانطلقت إلى مختلف الدول ومنها فرنسا... علينا أن نوضح ونفهم أن المرأة كانت جزءا وأداة فى هذا الصراع السياسى العالمى أيضا بموافقتها أو غير موافقتها وبالإلحاح الدينى المستمر وزرع الخوف ..
هذا أيضا يفسر موقف وكيلة مدرسة تجاه طالبة مختلفة عنهم لا ترتدى الإيشارب، بل ورفضت ذلك هى وأسرتها، فقامت القيامة عليها وهُددت بالطرد لأنهم لا يريدون مظهرا مختلفا للمرأة المسلمة.. وأخشى أن تكون الوزارة نفسها أهملت الموضوع باعتبارها معركة تخص المرأة، ليس هدفها أن تصبح المدرسة والمدرسون جهة محايدة فى وقت التعلم.. وإلا لسمحوا للطلاب البنين أيضا بوضع غطاء رأس (الطربوش) مثلما كان يحدث قديما وبدون تمييز بين طالب مسلم أو مسيحى.
***
إن انسحاب الدولة وعدم توفير الاعتمادات اللازمة لبناء المدارس للجميع سواء فى مصر أو فرنسا هو من فتح الباب للحصول على تمويل أدى لخروج كيانات موازية تعليمية، انتهزتها التيارات الدينية كفرصة وأنشأت مستعمرات لها، ومنها المدارس التى تفرض الحجاب.
مع أن الوطن واحد ولكن أفراده متعددون ومختلفون، إلا أن فى مؤسسات الدولة فالكل سواسية وبالتحديد تجاه المرأة. لذلك كان حكم المحكمة الدستورية المصرية قبل سنوات حكما هاما للحفاظ على وحدة الدولة، وكذلك القرارات التعليمية الفرنسية، لأن الأفكار لها أجنحة كما يقول ابن رشد لاسيما فيما يخص القضايا الفكرية والتعليمية فهو شأن إنسانى يحق لمختلف الشعوب النقاش حولها.
التعليم وحده وأفكاره هو ما يطور المجتمع وليس مجرد صفحات كتاب، فالزى المدرسى يصبح للجميع بغطاء للرأس للبنت والولد معا أو من غير للاثنين حتى لا تصبح المرأة وشكلها ووظيفتها هو المحرك الرئيسى فى المعارك السياسية، كما هى مربط الفرس أو الجوهر فى الصراع الحالى سواء فى مصر أو فرنسا وغيرهم فى معركة الإيشارب.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved