تركيا ولعنة «إس 400»

بشير عبد الفتاح
بشير عبد الفتاح

آخر تحديث: الإثنين 26 أكتوبر 2020 - 9:10 م بتوقيت القاهرة

تطلعا منها لمعالجة الخلل المزمن فى دفاعاتها الجوية بعيدة المدى، وطمعا فى اغتنام فرصة للتصنيع المشترك ترتقى بصناعتها الدفاعية الناهضة، انبرت أنقرة فى تحدى حلفائها الغربيين واستفزاز شركائها الإسرائيليين، بتجشم مغامرة إبرام صفقة مثيرة صيف العام 2017 بقيمة 2.5 مليار دولار لاستجلاب منظومات «إس 400» الصاروخية الروسية المتطورة، التى ما إن بدأت بتسلمها فى يوليو 2019، حتى لاحقتها عاصفة عاتية من الانتقادات والإدانات الغربية، تخللها إعلان واشنطن تعليق تسليمها مائة من مقاتلات الجيل الخامس الشبحية الأمريكية الأكثر تطورا من طراز «إف 35 »، وتجميد مساهمة شركات التصنيع العسكرى التركية فى البرنامج التنكولوجى لتجميع مكونات تلك المقاتلات بنهاية عام 2022.
وبينما تلح دوائر أمريكية لفرض جولة رابعة من العقوبات على أنقرة، جراء اختبارها للمنظومات الروسية، التى يراها الغرب تهديدا لأمنه، كونها لا تتوافق تقنيا واستراتيجيا مع نظام الدفاع الجوى الأطلسى مثل «باتريوت» و«ثاد»، فيما يتعذر إدماجها به، فيما ستتيح لموسكو كشف أسرار المنظومات التسليحية الغربية، كما ستخولها منافسة واشنطن بسوق السلاح العالمى، بعدما احتلت المرتبة الثانية عالميا فى تصدير الأسلحة، حسب معهد ستوكهولم لبحوث السلام«سيبرى»، برأسه يطل التقاعس الغربى اللافت عن معاقبة أنقرة، حيث اقتصر رد فعل الناتو، حيال اختبارها لتلك المنظومات قبل أيام، على التعبير عن بالغ الأسف، فيما اختزل الرد الأمريكى فى الإدانة الشديدة، بينما لا يزال الرئيس ترامب يتلاشى، حتى الآن على الأقل، تفعيل المادة 231 من قانون مكافحة خصوم أمريكا «كاتسا» عبر العقوبات. الأمر الذى يمكن فهمه فى ضوء معطيات شتى، لعل أهمها:
عدم تجاوز تركيا للخط الأحمر: فرغم الانتقادات والتهديدات الأمريكية لأنقرة بفرض عقوبات مشددة عليها بجريرة الصفقة المريبة، رهن البنتاجون تنفيذ هكذا إجراء بتخطى أنقرة للخط الأحمر المتمثل فى نشر ونصب المنظومات الروسية توطئة لتشغيلها، وهو الخط الذى يلتزم الرئيس إردوغان، حتى الآن، بعدم تجاوزه، رغم الضغوط الشعبية التى تحاصره. فخلال استجوابها البرلمانى لوزير دفاعه خلوصى أكار، اعتبرت المعارضة تلك الصفقة استنزافا لاقتصاد البلاد المأزوم، وإفسادا لعلاقاتها بحلفائها الغربيين، واتهمت إردوغان بالفشل والخداع جراء نقضه وعده بشأن تشغيل المنظومات الروسية بحلول أبريل الماضى، تاركا إياها تفسد بمخازن وزارة الدفاع، متذرعا بتداعيات جائحة كورونا تارة، وتارة أخرى بعراقيل تقنية، لم يفصح عنها، كتقاعس موسكو عن تزويد أنقرة بجميع التفاصيل الفنية المتعلقة بالمنظومات، بما فيها الشيفرة الخاصة بتشغيلها، علاوة على تمسكها ببند فى العقد يشترط اضطلاع طواقم فنية روسية بعملية التشغيل إثر افتقار تركيا للكوادر البشرية، فيما أرجعها خبراء أتراك وغربيون لضغوط اقتصادية تجبر إردوغان على تزلف إدارة ترامب وتجنب إغضاب الناتو، تلافيا لعقوبات موجعة لن يقوى الاقتصاد التركى المهترئ على تحملها.
تجربة محيرة: فى الوقت الذى يكيل الغرب انتقاداته لأنقرة على خلفية اختبارها المنظومات الروسية مجددا على مقاتلات أمريكية من طراز «إف 16» تابعة لسلاح الجو اليونانى فوق البحر المتوسط منتصف الشهر الجارى، وسعى إردوغان لاحتواء شىء من الغضب الشعبى عليه بتأكيده هكذا أنباء، لم يتورع السفير التركى لدى واشنطن عن نفيها، بينما استند منتقدو التجربة الصاروخية التركية المثيرة على مؤشرات من قبيل: إصدار أنقرة يوم 16 أكتوبر الحالى إشعارات «نوتام»، لتقييد المرور عبر المجال الجوى وقبالة المنطقة الساحلية على البحر الأسود، وتوجيه الطائرات بتجنب عبور المنطقة حتى ارتفاع 200 ألف قدم، تمهيدا لإجراء تدريبات بحرية تتضمن اختبارا لأنظمة تسليحية ورادارات.وبالتزامن، أوردت صحيفة «ينى عقد» القريبة من الحكومة، أن الجيش التركى سيجرى اختبارات على منظومات «إس – 400» فى ولاية سينوب بشمال البلاد، للتحقق من قدرتها على اكتشاف وتتبع الأهداف، والتثبت من دقة الرادارات، وفعالية نظام الاتصالات، والسيطرة على النيران والتحكم فى القيادة.فى غضون ذلك، أظهر تسجيل مصور مقاطع فيديو وصورا لنقل أجزاء من المنظومات أثناء مرورها بولاية سامسون، وعامودا دخانى يشق السماء، وكأنه صاروخ أطلق باتجاه البحر الأسود.
ورغم أنها قد لا تكون الأولى من نوعها، حيث سبق وأجرت أنقرة قبل نهاية 2019 تجربة على رادارات المنظومات الروسية، بعلم الناتو، يمكن القول إن التجربة الأخيرة، حالة ثبوت إجرائها، كانت جزئية وافتراضية إلى حد كبير.فلقد أكد تقرير للكونجرس اقتصار التجربة، التى افتقرت للدعم التقنى الروسى، على تنشيط الرادارات لقراءة حركة المقاتلات، ما يعنى أنه لم يتم فتح المنظومة بالكامل أثناء التجربة، التى لم تكن واقعية بالكلية، وإنما تمت عبر تقنية المحاكاة الالكترونية، وفق الخبراء الروس، الذين أكدوا أن وصول الإشارات للرادارات لم يتبعه إطلاق للصواريخ، إذ تم تصميم برنامج التجربة بالكامل، متضمنا رصد الأهداف، وتتبعها، ثم الإطلاق وتحديد مدى دقة إصابة الصاروخ لهدفه إلكترونيا، بحيث تتولى المنظومة المؤتمتة تنفيذ البرنامج وتقويمه.
عدم المساس بالشبحية: بينما عارضت واشنطن شراء أنقرة المنظومات الروسية بجريرة تهديدها للأنظمة الدفاعية الأطلسية، وتعريضها شبحية المقاتلات الأمريكية للخطر، نفت تركيا قيامها باختبار المنظومة على مقاتلات شبحية من طرازى «إف 22» و«إف 35»، كونها ليست بحوزتها أصلا، حيث تفيد التقارير الغربية بأن التجارب، التى لم تؤكد تركيا إجراءها، تمت خلال الفترة من أغسطس وحتى نوفمبر 2019، بقاعدة «مرتد» الجوية، على مقاتلات أمريكية غير شبحية، من طرازى«إفــ16 فيبر» و«إفــ4 فانتوم II»، ولم يتم الإعلان بعد عن نتائجها.
مسئولية أطلسية: تبرر تركيا اضطرارها لشراء المنظومات الصاروخية الروسية بحاجتها الملحة لمعالجة الخلل بعيد المدى فى نظامها للدفاع الجوى، وتأمين حدودها الجنوبية مع سوريا والعراق وشرق المتوسط، فى الوقت الذى تخلى عنها حلفاؤها الأطلسيون حينما ضنوا عليها بالخيارات البديلة، حتى أن الرئيس الأمريكى ترمب، أبدى مطلع ولايته الرئاسية الأولى، تفهمه لحق تركيا فى امتلاك منظومة للدفاع الجوى بعيد المدى، معتبرا لجوئها إلى روسيا بهذا الخصوص نتيجة منطقية لرفض إدارة أوباما تزويدها بمنظومات «باتريوت» الأمريكية.
الاستثناء الهندى: ما إن حصلت الصين على منظومات «إس 400» الروسية عام 2014، فيما تسعى الباكستان لامتلاكها، فى حين يستعد الجيش الهندى لخوض حربين متزامنتين على جبهتين ضد خصميه اللدودين، مع تفاقم سخونة الموقف الملتهب على الحدود الهندية الصينية، وتجدد التوترات الهندية الباكستانية فى كشمير، هرعت الهند لتوقيع عقد مع روسيا عام 2018 بقيمة 5.43 مليار دولار لتوريد خمس أفواج من المنظومات الروسية تسدد قيمتها عبر آلية دفع خاصة مصممة لتجنب العقوبات الأمريكية. ومنذ ذلك التوقيت، ظلت الهند بمفازة من قانون «كاتسا» الذى يفرض عقوبات على دول ثالثة تشترى أسلحة روسية. بل قامت واشنطن بتزويدها بـ24 طائرة هليكوبتر هجومية من طراز «سيهوك»، بتكلفة 2.6 مليار دولار، فيما أنكر مساعد وزير الدفاع الأمريكى أثناء إفادته أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب يوم 27 مارس الماضى، حصول الهند على المنظومات الصاروخية الروسية، مدعيا أن الصفقة لم توقع بعد.
منظومات صاروخية روسية داخل الناتو: ترى تركيا أنها ليست بدعا من دول الأطلسى فى اقتناء منظومات صاروخية روسية، إذ سبق لليونان وبلغاريا وسلوفاكيا حيازة منظومات منها دون التعرض لعقوبات غربية. فبينما ورثت سلوفاكيا من تشيكوسلوفاكيا بطارية صواريخ «إســ300» مع 48 صاروخا، تمتلك بلغاريا وحدتين من ذات المنظومة تضم كل منهما خمس قاذفات صاروخية. أما اليونان، فقد حصلت على منظومة «إســ200» الأقل تطورًا، كما تسلمت عبر قبرص اليونانية عام 1997 أربع بطاريات«إس 300» تضم 16 منصة إطلاق، و80 صاروخا، لكنها أرجأت تشغيلها واكتفت بتخزينها فى مستودع عسكرى بجزيرة كريت استرضاءً للناتو. غير أن مصادر استخباراتية تركية أكدت قيام الجيش اليونانى بصيانتها واختبارها عام 2013 بقواعد الناتو فى جزيرة كريت، ضمن سياق تدريبات «الصقر الأبيض». وخلال المناورات العسكرية السنوية التى تتم بين سلاح الجو الإسرائيلى ونظيره اليونانى، قامت أثينا بتشغيل منظومات «إســ300 » ما مكن الإسرائيليين من دراستها بدقة وتطوير صاروخ جوــ أرض من طراز«رامباج» يزن 570 كلغ ويبلغ مداه 150 كيلو مترا، بسرعة فوق صوتية بحيث يستعصى على رادار تلك المنظومات رصده أو إسقاطه. وقبل قليل، أكدت نفس المصادرسعى اليونان هذه الأيام لتنفيذ الرماية التجريبية الثانية على تلك المنظومات فى موقع الرمى التابع للناتو بجزيرة كريت، بغية تحديثها لتقارع «إس 400» التركية.
احتواء الميول الأوراسية لتركيا: يتخوف الحلفاء الأطلسيون من أن يفضى فرض عقوبات قاسية على أنقرة جراء شرائها المنظومة الصاروخية الروسية، تتوقع دوائر أمريكية أن تتجلى فى عزل شركات التصنيع العسكرى التركية عن النظام المالى الأمريكى بما يحرمها من شراء المكونات الأمريكية الدقيقة اللازمة لاستكمال تصنيع المنتجات العسكرية التركية وتسويقها أمريكيا ودوليا، ما من شأنه توجيه ضربة قاصمة لصناعة الدفاع التركية الناشئة، التى تعتمد بالأساس على التكنولوجيا العسكرية الغربية، والأمريكية تحديدا، لاسيما تلك المتعلقة بالمحركات، إلى تحفيزالميول الأوراسية لأنقرة عبر دفعها نحو تعميق شراكاتها الاستراتيجية مع روسيا والصين وإيران، خصوصا بعد تلويح مسئولين أتراك مرارا بتدشين مفاوضات مع موسكو لشراء أنظمة الدفاع الجوى الروسية الأحدث على الإطلاق من طراز«إس 500»، علاوة على مقاتلات الجيل الخامس من طراز «سو 57» و«ميج 35 »، ردا على إيقاف واشنطن تسليم الأتراك مقاتلات «إف 35»، بعدما تعاقدوا عليها وسددوا جل ثمنها قبل سنوات.
وما بين تريث الغرب فى معاقبة تركيا على امتلاكها منظومات«إس 400» الصاروخية الروسية، مؤملا أن تلقى نفس مآل سابقاتها لتتوارى بمستودعات الناتو بعد سبر أغوار أسرارها التقنية، وتخوف موسكو فى المقابل من هذا السيناريو التصعيدى، تبقى لعنة تلك المنظومات، التى تعد الأدنى تطورا فى فئتها، محاصرة لإردوغان، الذى بدا عاجزا عن بلوغ مآربه منها، سواء لجهة تشغيلها المستعصى، أوالاستفادة مما قد تتيحه من مشاريع وهمية للتصنيع المشترك، أو حتى ممارسة شىء من الابتزاز الاستراتيجى للغرب وروسيا فى آن. فبينما يعرضه التشغيل المنفرد لعقوبات لا طاقة لبلاده بها، ربما يضطرإلى التضحية بالشراكة الاستراتيجية الظرفية مع موسكو إثر انتهاكه «وثيقة المستخدم النهائى» للمنظومة، ببيعه إياها لطرف ثالث أو تسريب أسرارها لحلفائه الأطلسيين، ابتغاء مرضاتهم وتجنبا لعقوباتهم وطمعا فى عطاياهم غير الثمينة عادة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved