انفجار بيروت.. تداعياتٌ اقتصاديةٌ بأبعادٍ جيوسياسية

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: الإثنين 26 أكتوبر 2020 - 9:10 م بتوقيت القاهرة

ينشر بالتوازى مع مؤسسة الفكر العربى مقال للكاتب محمد دياب، تناول فيه أهمية مرفأ بيروت، والتنافس بينه وبين مرفأ حيفا وكيف اتخذ هذا التنافس أبعادا جديدة... جاء فيه ما يلى:
لا يزال لبنان يعيش على وقع ترددات الانفجار الهائل الذى دمَّر القسم الأكبر من مرفأ بيروت وأَلحق أضرارا جسيمة بالمناطق المُحيطة به من المدينة. لقد سبَب هذا الحَدَثُ المروع خسائرَ بشرية واقتصادية وعمرانية فادحة، وتركَ وسيَترك تداعياتٍ خطيرة بعيدة المَدى على لبنان وشعبه ومُستقبله كدولةٍ وككيان، وعلى مَوقعه ودَوره على مستوى الإقليم، تداعيات ذات أبعاد اقتصادية وسياسية وجيوسياسية.
لقد اضطَلع مرفأ بيروت بدَورٍ محورى فى الاقتصاد اللبنانى بوصفه المرفأ الرئيس فى لبنان، ولعبَ دَورا أساسيا فى عمليات الاستيراد والتصدير، وبالتالى فى تحريك العجلة الاقتصادية فى البلاد، حيث كان يؤمِن ما يقارب 72% من حركة الاستيراد والتصدير، و89% من مجمل عمليات نقْل الحاويات، ويحقِق لخزينة الدولة دخلا سنويا قدره 270 مليون دولار (وصلت إلى 313 مليونا فى العام 2018)، ويقوم بدَور كبير فى حركة الترانزيت إقليميا. وبالتالى، فإن توقف المرفأ، ولو لفترة قصيرة، ستنجم عنه خسائر لا تعوَض للاقتصاد اللبنانى المُتهالك أساسا.
فعلى مستوى الاقتصاد الكلى، كان لبنان يُعانى أزمة متعددة الأوجه (اقتصادية، مالية، نقدية)، كانت من أسباب الانتفاضة الشعبية والاضطرابات التى رافقتها وأدَت إلى توقُف العجلة الاقتصادية فى البلاد. وتفاقَمت الأزمة نتيجة تفشى وباء كوفيد ــ19 ليضيف بُعدا صحيا على الأزمة، بما يُهدِد الأمن الصحى للمُجتمع اللبنانى، مع ما ينطوى عليه ذلك من تداعيات اقتصادية مدمرة، تتمثل فى تعطُل قطاعات اقتصادية بكاملها وتفاقُم البطالة بوتائر مُخيفة وإفقار مُريع لما يزيد على نصف الشعب اللبنانى. كل ذلك دفع البنك الدولى إلى توقُع انخفاض بنسبة تزيد على 10% فى إجمالى الناتج المحلى الإجمالى فى العام 2020. تلك كانت صورة الاقتصاد اللبنانى قبل الرابع من أغسطس الأسود. ويُجمِع المُحللون الاقتصاديون على أن الخسائر الناجمة عن الانفجار جسيمة، تُقدَر ما بين 5 مليارات و15 مليار دولار (تشير تقديرات البنك الدولى إلى 8,2 مليار). وثمة نوعان من الخسائر. الخسائر المُباشرة نتيجة التدمير الذى أصاب المرفأ، وطال المَرافق والتجهيزات والأصول، وكذلك الأضرار التى أصابت المبانى السكنية والتجارية فى الأحياء المُجاورة ومحتوياتها (قُدِرت هذه الخسائر الأولية بخمسة مليارات دولار، أى بنحو 9,3% من قيمة الناتج المحلى الإجمالى لعام 2019 والبالغة 53,37 مليار دولار. وهى تُعادل 4 أضعاف قيمة سندات «اليوروبوند» التى تخلَف لبنان عن سدادها فى مارس الماضى والبالغة 1,2 مليار دولار، كما تُعادل قرابة 25% من احتياطى مصرف لبنان من النقد الأجنبى لحظة وقوع الانفجار)؛ والخسائر غير المباشرة الناجمة عن توقُف المرفأ عن العمل وتعطُل الأنشطة الاقتصادية فيه لفترة من الزمن قد تطول، وما يسمى خسائر الفُرص الضائعة نتيجة هذا التوقُف. يُضاف إلى ذلك حرمان الدولة من جزء مُعتبر من مداخيلها السنوية من رسوم جمركية وضرائب مُختلفة على الأنشطة الاقتصادية. ونتيجة لذلك، توقَع البنك الدولى حصول انخفاض إضافى فى الناتج المحلى الإجمالى بمقدار 0.4 نقطة فى العام الحالى، و0,6 نقطة فى العام المُقبل. وفى المحصلة، فإن الكارثة لن تؤدى إلى انكماش النشاط الاقتصادى فحسب، بل إلى ما يُشبه الانهيار فى مُختلف قطاعات الاقتصاد اللبنانى، وإلى تفاقُم البؤس الذى يصيب فئات المُجتمع الأكثر فقرا، وكذلك إلى انسحاق الطبقة الوسطى التى تمثِل، عادة، الركيزة الأساسية والمَصدر الرئيس للازدهار والاستقرار فى الاقتصادات والمُجتمعات كافة.

فى التداعيات السياسية والجيوسياسية
من المعروف أن مرفأ بيروت لعب، تاريخيا، دَورا بالغ الأهمية فى الاقتصاد الإقليمى، ويُعد واحدا من أهم الموانئ فى الحوض الشرقى للبحر المتوسط (يقدَر عدد السفن التى ترسو فيه سنويا بما يزيد على 2000 سفينة)، ويحتل المرتبة 73 على مستوى التجارة الدولية، والمرتبة التاسعة على مستوى المنطقة، ويتمتع بقدرة تنافسية عالية، تتمثل فى مَوقعه الجغرافى وتوافُر التجهيزات اللوجستية والخبرات العالية. وبفضل مَوقعه الاستراتيجى كان هذا المرفأ، الذى افتُتح فى العام 1894، بمثابة البوابة الرئيسة لحركة التجارة (الترانزيت) نحو الداخل العربى. وكانت توضع الخطط الطموحة لتعزيز هذا الدَور من خلال تطوير المرفأ نفسه، وكذلك شبكة المواصلات التى تربطه بالبلدان العربية. ومن الواضح أن ما حصل يوجِه ضربة قاصمة لكل هذه الطموحات ويُخرِج مرفأ بيروت من المُنافَسة الشديدة الدائرة بين مرافئ شرقى البحر المتوسط، لفترة طويلة من الزمن، ما قد يفقده هذا الدَور بصورة شبه نهائية. كل ذلك يدفع إلى الظن بأن تدمير مرفأ بيروت قد يكون الهدف منه استكمال تطويق لبنان وإضعافه. ويُمكن وضع ذلك فى سياق حسابات جيوسياسية واستراتيجية فى إطار ما يسمى «حرب المَرافئ» فى هذا الجزء من العالَم، فالطموح الإسرائيلى واضح فى السعى ليحل مرفأ حيفا مكان مرفأ بيروت ويَنتزع منه دَوره التاريخى كصلة وصل بين الشرق والغرب.
ويأخذ هذا التنافُس بين المرفأَين أبعادا جديدة فى ضَوء الخطط الصينية البعيدة المدى لإحياء طريق التجارة الدولية («طريق الحرير«) القديم بين الصين والغرب، مرورا بالشرق الأوسط، عبر مد شبكات سِكك حديد جديدة ومتشعبة وتوظيف استثمارات كبيرة فى عددٍ من المرافئ ومن بينها ميناء حيفا، وتعزيز الحضور الروسى فى المنطقة تحقيقا للحُلم الروسى الدائم فى إيجاد مَوقع قَدَمٍ راسخٍ فى المياه الدافئة جنوبا، ومُحاولات إيران الحثيثة إثبات وجودها كقوة إقليمية مؤثِرة، وكذلك الحراك التركى المُتزايِد للاضطلاع بدَورٍ إقليمى فاعل على أكثر من جبهة والسعى لإعادة النظر بحدود بحرية وبرية رُسمت عقب الحرب العالَمية الأولى وأمنت السيطرة الاستراتيجية الغربية على البحر المتوسط. فى مُواجهة ذلك كله، تندرج الجهود الغربية (الأمريكية والفرنسية فى الدرجة الأولى) للحفاظ على مَواقع القوة والنفوذ فى الشرق الأوسط. وفى هذا السياق بالتحديد نَضع الاندفاعة الفرنسية فى اتجاه لبنان، بما يتجاوز ما يُحكى عن روابط تاريخية بين البلدَين وتضامُن إنسانى.
فقد استثارت الكارثة التى حلت ببيروت مَوجة تعاطُف شعبية وسياسية وإعلامية عارمة على المستويَين العربى والدولى لم يشهد لبنان مثيلا لها، حتى فى أحلك مراحل حربه الأهلية. وكان هذا التعاطُف صادقا أمام هول الكارثة، ولاسيما على المستوى الشعبى، وإلى حد كبير على المستويَين الرسمى والإعلامى؛ فقد سارعت دول شقيقة وصديقة لمد يد العون للبنان فى محنته، ولا شك لدينا فى صدق عاطفتها واندفاعتها المشكورة. بيد أن الدول، وخصوصا الكبرى منها، ليست جمعيات خيرية، ولكل واحدة منها مَصالحها وأهدافها وتحالُفاتها وتطلعاتها لتوظيف ما حصل فى إطار الصراع الدائر على مواقع النفوذ فى منطقة الشرق الأوسط، والتنافُس الشديد بين مراكز القوى العالَمية فيها، فى ضوء الاكتشافات الجديدة لمَكامن الثروة النفطية والغازية فيها وسعى هذه القوى للهَيمنة عليها. فمن المعروف أن النفط (والغاز) مادة قابلة للاشتعال، ليس بالمعنى الحرفى للكلمة فحسب، بل والسياسى أيضا. فحيث توجد كميات كبيرة منه، يصبح «الحريق» أمرا شديد الاحتمال. وهذا ما يُفسِر احتدام المُنافَسة على النفوذ فى لبنان وشرق المتوسط عموما، وخصوصا فى ضوء الأصوات والدعوات التى تصاعدت فى لبنان فى الآونة الأخيرة والداعية إلى التوجُه شرقا، أو بالأحرى فتْح كل الخيارات، سواء أكانت شرقية أم غربية، للخروج من أزماته المالية والاقتصادية المُتفاقِمة وإيجاد الحلول لها.

أيقونة المُدن العربية
لقد أدَت الكارثة إلى استجلاب التدخلات الخارجية فى الشئون الداخلية للبنان (أو بالأحرى تزايدها، وهى الحاضرة أصلا فى الواقع اللبنانى منذ أن وُجد لبنان)، وإلى تقاطُر كِبار المسئولين والمبعوثين من دول، بعضها كبرى، لزيارة لبنان والتقاء مسئوليه وبعض مُمثلى القوى السياسية والمُجتمع المدنى فيه، بل ونزول بعضهم إلى الشارع والاستماع إلى شكاوى الناس العاديين ومَطالبهم وتقديم الوعود لهم، مع عدم مُراعاة أبسط مَظاهر السيادة الوطنية وتجاوُز واضح لكل اللياقات والأعراف الدبلوماسية التى تحكم العلاقات السياسية بين الدول. فلم يَجد الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون حرَجا فى تقديم «النصح» حول الاصلاحات المُفترَض القيام بها لإخراج البلد من أزمته الاقتصادية والسياسية، ووضْع الأُطر الزمنية والسياسية التى يراها مناسبة لتشكيل الحكومة الجديدة ورسْم مسار سياستها الإصلاحية. فبدا الأمر وكأننا أمام وصاية جديدة، أو بالأحرى انتداب جديد يُطل برأسه عشية مئوية قيام لبنان الكبير. وأدَت الكارثة أيضا إلى تزاحُم السفن والبوارج الحربية الأجنبية أمام الشواطئ اللبنانية بحجة تقديم المُساعدة فى إزالة آثار الانفجار.
وإذا كانت مَوجة التعاطُف قد أسهمت، نسبيا، فى فك الطوق الاقتصادى والمالى والسياسى المفروض على لبنان منذ قرابة العام، فإن ما حصل أدى عمليا إلى تحوُل لبنان إلى ساحة مكشوفة هذه المرة، للصراعات الاستراتيجية الدائرة فى الإقليم، والتى قد تُسهم نتائجها فى إعادة رسْم الخريطة الجيوسياسية للمنطقة. ومن الأكيد أنه سيحصل تسابُق وتنافُس بين دول عديدة للفَوز بعقود إعادة بناء المرفأ، وربما تشغيله، وبشروط قد تضع هذا المَرفق الحيوى والبالغ الأهمية محليا وإقليميا، فى قبضة الجهة التى ستفوز بالعقد، مع ما يترتب عن ذلك من هَيمنة على الاقتصاد اللبنانى، بحكم الدَور الذى يلعبه المرفأ فى هذا الاقتصاد. ومن الواضح أن الطبقة السياسية التى تمسك بزمام السلطة فى البلاد منذ ثلاثة عقود، والتى أَظهرت الأزمة الاقتصادية والمالية المُستفحِلة التى تعصف بالبلاد فى السنوات الأخيرة، ثم كارثة المرفأ، مدى فسادها وعدم أهليتها، أن هذه الطبقة السياسية ستكون عاجزة عن الوقوف بوجه التدخلات الخارجية وحماية الوطن من أتون الصراعات الدولية، لا بل ستكون مستعدة، ومن أجل الحفاظ على مواقعها فى السلطة، للرضوخ للقوى الخارجية وتسليم مصير البلاد لها، مع ما يُمكن أن ينجم عن ذلك من فقدان لبنان لأمنه واستقراره وحرية قراره.. ولاستقلاله فى نهاية المطاف.
لكنْ، وعلى الرغم من كل ما تقدَم، فإن ثقتنا كبيرة بأن لبنان قادر على النهوض مُجددا من الركام والتغلُب على أزماته السياسية والاقتصادية والصمود فى وجه التدخلات الأجنبية، وأن بيروت قادرة على محو آثار الكارثة واستعادة دَورها ومَوقعها بوصفها أيقونة المُدن العربية، المدينة الأكثر حيوية وإشعاعا وإبداعا فى عالَمنا العربى. والتاريخ شاهد على ذلك.

النص الأصلى

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved