وداعا للعقل أهلا بالعضلات

هاني شكر الله
هاني شكر الله

آخر تحديث: الخميس 26 نوفمبر 2009 - 5:38 م بتوقيت القاهرة

 استهللت مقالى السابق بتحذير (مستعار من التقاليد التليفزيونية) بأن ما سيتبع سيكون على الأرجح مؤذيا لمشاعر الكثير من القراء. وأكتب اليوم لا لأحذر ولكن لأقرر بأن الهدف الأساسى من السطور التالية هو إيذاء مشاعر أكبر قدر ممكن من القراء، لعل فى جرح المشاعر ما قد يسهم ــ ولو بأقل القليل ــ فى إنقاذ العقول.

المشهد المصرى هذه الأيام تغلب عليه حالة من النكوص العقلى مذهلة فى اتساعها وشمولها وسطوتها، وكأن أكثرنا جهلا وتخلفا وتعصبا قد أمسكوا بزمام عقولنا، وهو يذكر بحالة البلاهة التى أمسكت بالشعب الأمريكى بعد 11 سبتمبر، ولكن هناك على الأقل قتل أكثر من ثلاثة ألف شخص بأفظع الصور فى عملية إرهابية كبرى، فما عذرنا نحن؟

«مجزرتى» الجزائر والخرطوم لم تسفرا، وفقا للتقارير الرسمية، عن قتيل واحد ولم يتجاوز عدد المصابين بضعة عشرات، وصل فى تقدير وزارة الصحة المصرية لـ31 شخص فقط لا غير، أكثرهم أصيبوا بإصابات طفيفة لم تحتاج تدخلا طبيا من أى نوع. أين القضية إذن؟

مشجعو كرة القدم البريطانيون من أكثر مشجعى الكرة فى العالم شراسة وهمجية، قاموا فى نهائى كأس أوروبا 1985 بين ليفربول وهوفنتوس الإيطالى (والذى انعقد فى استاد هايزل فى بروكسل) بالهجوم على مشجعى هوفنتوس، مما أدى إلى مقتل 39 من المشجعين الإيطاليين وإصابة المئات منهم، فيما أطلق عليه وقتها «كارثة استاد هايزل». الحادث روع أوروبا، وعالم كرة القدم، ولكنه لم يسفر عن قطع للعلاقات الدبلوماسية بين إيطاليا وبريطانيا، ولا عن استدعاء لسفراء، ولا عن تبادل للاتهامات والسباب العنصرى بين مسئولى البلدين وأجهزة إعلامهما وفنانيهما، وجماهيرهما، إلخ.

وجهت الإدانة من الجميع ــ بمن فيهم المجتمع البريطانى نفسه ــ لمن ارتكبوا الجريمة من البلطجية البريطانيين، وأكثرهم من المنتمين للمنظمات الفاشية أو من المتعاطفين معها، كما تقرر حرمان جمهور الكرة البريطانى من حضور المباريات الأوروبية لمدة خمس سنوات، مع سنة إضافية لمشجعى نادى ليفربول.

ويبقى مع ذلك أن خير دليل على حالة النكوص العقلى التى أصابتنا خلال الأيام الماضية هو الشعبية المفاجئة لعلاء مبارك، وما يقال عن تسارع المئات والآلاف لترشيحه لرئاسة الجمهورية خلفا لوالده، وذلك بسب تصريحات «صقورية» الطابع أدلى بها عقب «موقعة» الخرطوم. لا أعرف غير أقل القليل عن الابن البكر لرئيس الجمهورية، ولا أحمل تجاهه من مشاعر غير تعاطف عميق لمصابه الفادح، وأعرف ــ كأب ــ إنه أفدح ما يمكن أن يصيب إنسانا.

ولكن لو صح ما يقال فى بعض وسائل الإعلام أن جماهير الشعب المصرى قررت، بين عشية وضحاها، اختيار شخصا لا تعرف عنه غير أقل القليل، لمجرد انه أدلى ببعض التصريحات حادة اللهجة تعليقا على مباراة لكرة القدم، لو كان الأمر هكذا فعلا لكان ذلك إعلانا بأننا على نفس الصورة التى يتصورنا بها الحزب الحاكم، شعب من البلهاء، فاقد للأهلية، لا يصلح لاختيار حكامه، ولا يحق له اختيارهم.

مهرجان السباب العنصرى ضد الشعب الجزائرى هو أيضا دليل فادح وفاضح على حالة النكوص العقلى التى يبدو أنها قد طالت المجتمع المصرى بأسره، خاصة أجهزة إعلامه و«فنانيه». المشاعر العنصرية فى أى مكان وزمان وبصرف النظر عن المستهدفين بها هى تجسيد للجهل والتعصب وتغييب العقل، ولكن عادة ما أن تكون ذات جذور عميقة ولأسباب لا تقل عمقا وتعقيدا، أما أن تنطلق موجة عنصرية ضد شعب عربى ربطته بمصر روابط نضال تاريخى مشترك،

وأن يكون انطلاقها بسبب «ماتش كورة»، وأن يكون انطلاقها من قلب «التيار العام» فى المجتمع، فى مزاد مفتوح للإعلاميين والفنانين والسياسيين وأى مار فى الشارع، يتنافسون جميعا على استخدام أقذع الألفاظ وأشدها عنصرية وأكثرها بذاءة، فهذا ما يكاد يستعصى على الفهم، ولا يفسر بغير الاعتراف بأننا قد صرنا مجتمعا معلولا، ومختلا.

لست من مشاهدى التليفزيون إلا نادرا (باستثناء القنوات الإخبارية)، كما حرصت خلال الفترة الماضية على الابتعاد تماما عن القنوات الفضائية المصرية التى تحولت أكثرها إلى منابر شحن وتحريض، سبق اللقاءين الكرويين ولعب دورا بارزا فى إشعال نيران العنف والعنف المضاد التى شابتهما، ثم استمرت قنواته تتبارى فى تحويل تلك النيران إلى حريق شامل يستهدف تدمير العلاقات بين شعبين عربيين شقيقين لسنوات وربما عقود.

أتيح لى مع ذلك أن أشاهد حوارا واحدا (وصلنى عبر البريد الإلكترونى) أجرته قناة فضائية مصرية مهمة، مع ممثلة مصرية تعرفت بالكاد على ملامحها، تقول فيه بالحرف الواحد: «احنا لازم نقاطع الجزائر دى تماما، وده شعب متخلف وحقير، وبجد مينفعش إن احنا نتعامل معاه..».

وبصرف النظر عن الألفاظ المبتذلة يبدو أن الجميع متفقون على أن «الكرامة» بل و«الرجولة» المصرية قد تعرضت لإهانات لا تغتفر على أيدى الجزائريين، وهى إهانات لا تمسحها سوى الدماء، لو أخذنا الخطاب الشائع على محمل الجد. وهكذا انطلقت حملة من النقد العنيف للحكومة لأنها أرسلت إلى الخرطوم مشجعين «أطرياء»، و«فرافير»، فى حين كان من واجبها أن ترسل عشرات الآلاف من البلطجية وجماهير «الألترا»، فهؤلاء هم «رجال» مصر الحقيقيون، كان بمقدورهم أن يذيقوا أقرانهم من البلطجية الجزائريين العلقة مقابل العلقة، وينتصروا بذلك لكرامة مصر ورجولتها.

وفى الحقيقة فإن التغنى برجولة جماهير الفقراء، أولئك «المصريون الحقيقيون»، حسبما وصفهم المثقفين والإعلاميين والفنانين الذين تبادلوا بدورهم الاتهامات الضمنية «بالفرفرة»، يخفى وراءه ما يكنه هؤلاء من احتقار عميق لأولئك «المصريين الحقيقيين». فالمعنى المستبطن هنا هو أن التوظيف الأمثل لهؤلاء الجماهير هو كبلطجية.

إذا كانت الدعوى لانتخاب علاء مبارك رئيسا للجمهورية لمجرد إصداره لتصريحات حادة اللهجة عن الجزائر تنم عن بلاهة فاضحة، فإن دعوى تحويل الجماهير المصرية إلى بلطجية محمولين جوا تنطوى بالفعل على نكوص ذهنى وحضارى مروع. فقط المجتمعات شديدة البدائية هى التى تجعل من القوة العضلية قيمة عليا، ومعيارا لـ«الرجولة»، ومكمنا للسطوة والنفوذ، بل وربما لزعامة القبيلة أو القوم بأسرهم. وإذا كان الأمر كذلك، فلعلنا وقعنا أخيرا على حل ناجع لمشكلة رئاسة الجمهورية التى استحوذت على اهتمام الرأى العام، واحتلت موقع الصدارة فى النقاش العام فى الفترة السابقة على العدوان الجزائرى المقيت.

فلماذا لا نعقد تصفيات مصارعة وملاكمة وتاى كوندو وغيرها من فنون القتال اليدوى، يسمح فيها باستخدام السنج والمطاوى وعبوات البيروسول، والفائز ننصبه زعيما للأمة، تنتهى ولايته بمجرد ظهور فتوة أقوى وأشد بأسا من بين صفوف الشعب المصرى الحقيقى. زعيم كهذا هو المؤهل لأن يقود جماهير البلطجية الغفيرة دفاعا عن كرامة الأمة فى معاركها الكبرى ــ فى استادات كرة القدم داخل أرض الوطن وخارجها.




هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved