زخات سكندرية

طلعت إسماعيل
طلعت إسماعيل

آخر تحديث: الإثنين 26 نوفمبر 2018 - 9:10 م بتوقيت القاهرة

رذاذ المطر فى صباح شتوى يمحو أدرانا علقت بنفوس أجهدها اللهاث الطويل فى صراع يومى مكشوف، وخفى، فى دهاليز الحياة القاسية.. غيوم تداعب سماء سرعان ما تنتصر للنور رغم السحب الداكنة.. تلك هى عروس البحر فى يوم من أيام نوفمبر الذى لا يخطئ موعده مع مدينة تكافح القبح، وتشاغل، بفتنتها، العيون.
...
بالتوازى مع ترام الإسكندرية الشهير، وبالتقاطع معه، كانت السوق عامرة بالخضروات والفواكه والأسماك الطازجة، فى منطقة كليوباترا، بما يشى بأن المدينة لا تزال هنا.. فمنذ عهد الملكة البطلمية الساحرة، التى ناطحت الرجال فى المجد والشهرة، وحتى اللحظة الراهنة، تمضى الحياة على كل حال، وإن اعترتها صعوبات يرى البعض أنها تخطت قدرة الناس على تحمل تبعاتها الضاغطة هذه الأيام.
صوت المساومات فى عمليات البيع والشراء، يعكس رغبة فى تدبير المعيشة بأقل قدر من الخسائر، قبل أن تسكن الاجساد المتعبة بعد يوم ملىء بالتفاصيل، حلوها ومرها. هنا فى الدروب الضيقة، ووسط حرارة الانفاس، رغم أنف «نوة المكنسة»، تكمن روح المدينة فى حركتها الدءوب.. لا ملل ولا خلل فى دورة منتظمة الايقاع، لا تعطى للأيام أو الشهور أو الفصول، ولا حتى السنوات، فرصة للنيل منها.
...
كلاعبى السيرك، ووسط جمهور حاشد فى شارع السبع بنات والأزقة الجانبية، كما الأيام الخوالى، الباعة يتقافزون لتغطية بضاعتهم من سيل المطر المنهمر، صياح وتحفيز لحماية منتجات متنوعة الاشكال والاستخدامات، كانت رخيصة يوما ما غير أن غلاء الأسعار الذى امتد إلى كل شىء، جعل «الزبون» يناكف بائعا لم يعد قادرا على الصبر الطويل، قبل أن تتوقف لعبة الكر والفر بين الشمس والمطر، مؤقتا، فتعود الحياة لحركة البيع والشراء من جديد.
غير بعيد عن المكان ينتصب تمثال محمد على باشا ممتطيا صهوة جواده فى ميدان المنشية «القناصل سابقا» ناظرا باتجاه الغرب، وموليا للشرق ظهره، فى المكان ذاته الذى وقف فيه جمال عبدالناصر معلنا تأميم قناة السويس «شركة مساهمة مصرية» عام 1956، فى تحدٍ للغرب، فيما كانت ثورة يوليو تأخذ خطواتها الحقيقية نحو تمكين المصريين من ثرواتهم الوطنية.
...
فى قصر ثقافة الأنفوشى، وسط أقدم وأعرق احياء الإسكندرية، تجمع الكبار لمتابعة عرض مسرحى، فيما الصغار كانوا يتدربون على الرسم فى قاعة مجاورة، بينما اختار قسم ثالث حضور إحدى الندوات، فى حركة نشطة جعلت مديرة المركز، أمانى عوض، توزع حضورها بين القاعات للاطمئنان على أن كل شىء يمضى حسب الخطة الموضوعة.
داخل قاعة فسيحة بالدور الثانى، تجمع طلاب الإعلام وعشاق الصحافة، وحشد من ابناء الثغر النابهين، فى ندوة أدارتها الزميلة هدى الساعاتى عضو مجلس نقابة الصحفيين بالإسكندرية، وشرفت بأن أكون ضيفها، فتحت الوجوه المتحمسة والعيون المترقبة أبوابا للحديث عن اتجاهات الصحافة العالمية والمحلية فى عصر الديجيتال.
توالت التساؤلات: هل تصمد الصحف الورقية فى مواجهة رديفها الإلكترونى؟، ما هو مستقبل المواقع الاخبارية الإلكترونية، وهل من سبيل لانقاذ الصحافة الورقية من زحفها البطىء نحو القبور؟!، ما هى أهم التحديات أمام الأجيال الصحفية الجديدة؟، وهل للصحافة أصلا مستقبل؟!
على مدى تجاوز الساعتين، متحدثا ومستمعا لاسئلة ومداخلات تعكس اهتماما جادا بالنقاش المطروح، كانت الخلاصة: الصحافة لن تموت فقد وجدت لتبقى، فهى احتياج إنسانى، لكن التمسك بالطرق التقليدية فى الكتابة بالصحف الورقية يحتاج إلى إعادة نظر، وشجاعة فى تبنى ما يلائم العصر، واحتياجات الاجيال الجديدة من القراء والصحفيين على حد سواء.
المواقع الإلكترونية بدورها فى حاجة إلى جهد حقيقى يرفع من مصداقيتها، ويحجب عنها تسلل الشائعات والأخبار الكاذبة، قبل أن تصل إلى محطة تقديم المحتوى بمقابل مادى، فى ظل اتجاهات عالمية ترفع شعار لم يعد هناك شىء بالمجان.. وفى الختام هل نحن على استعداد لاستقبال غد ينبض بالتحديات؟! هذا ما كان يدور فى الأذهان ونحن نهم بالخروج على وقع زخات مطر خفيف.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved