بورتريه مدهش للألم

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: السبت 26 نوفمبر 2022 - 9:30 م بتوقيت القاهرة

يمكن اعتبار هذا النص من أبرز الأعمال التى تترجم صورة نادرة للألم الإنسانى، النفسى والجسدى، تقدمه كعقابٍ قدرى لا يمكن الإفلات منه، وبتفصيلاتٍ دقيقة، تكشف بوضوح عن سيرة مروية، من هنا تبدو التجربة شاقة وصعبة مرتين: مرة بمعايشتها، ومرة بكتابتها.
ولكن الكتابة صنعت من الحالة الخاصة، تأملا عميقا فى الضعف الإنسانى، فى الطريقة العجيبة التى تتحول فيها السعادة إلى مأساة، وفى دور الحب والمساندة حتى النهاية، رغم أن النتيجة معروفة، ورغم أن سيزيف يتشكل فى صورة امرأة، كتب عليها أن تصعد بلا توقف حاملة أثقالها، بعد أن تسلل إليها المرض العقلى بالوراثة.
حكاية «لم أعد آكل المارون جلاسيه» لمؤلفها عادل أسعد الميرى، والصادرة فى طبعتها الثانية عن دار ميريت، بطلتها ريتا الفرنسية، مرافقة الرحلات السياحية (تور ليدر) المقيمة فى مصر، وزوجها ناجى، المرشد السياحى المصرى.
يتزوجان ويقيمان فى الزمالك، تحب القاهرة والناس واللهجة المحكية المصرية، ولكنها تُصاب بمرض الاضطراب الذهانى الوجدانى ثنائى القطب، إثر زيارة لها إلى الهند، فتتحول الحياة إلى معركة يومية، لحماية ريتا من وحش لا يرحم، ولإنقاذها من نفسها، وكانت قد حاولت الانتحار من قبل، بعد رحلة قديمة لها إلى جنوب شرق آسيا، وستحاول الانتحار بإلقاء نفسها من أحد طوابق منزل بحى بولاق أبو العلا.
ريتا ليست فقط ضحية تاريخ مرضى عائلى طويل، يصيب أفرادها باضطراباتٍ نفسية حادة، ويدفع بعضهم إلى الانتحار، مثلما فعل والدها، ولكنها أيضا ابنة حياة أسرية مفككة، ووحدة قاتلة عرفتها كطفلة، بعد طلاق أمها، وثمرة إحباط عائلى، لفشلها مرتين فى الحفاظ على حملها من ناجى، والآن عليها أن تواجه قدرها، وأن يواجهه معها ناجى، سواء فى القاهرة، أو فى فرنسا.
تتقاطع الحكاية مع حياة المؤلف الحقيقية، ومع قصة زواجه من امرأة فرنسية، أصابها مرض عقلى، وانتهت العلاقة بالانفصال، وإن ظل الطرفان على تواصل، حتى انتحرت الزوجة السابقة، وبين الطبعة الأولى والطبعة الثانية من الكتاب فروق مهمة، إذ حذف الميرى صفحات كثيرة، تخفيفا من مشاهد الألم التى عاينها، وكنت أود لو ترك التجربة كما كُتبت أول مرة.
عادل الميرى لا يحكى وقائع ما جرى بين ريتا وناجى بطريقةٍ تقليدية، وإنما يعيد بناءها سرديّا، ويجعل السرد مشتركا على لسان ناجى، وعلى لسان ريتا، وبينما يبدأ ناجى بسرد بداية علاقته بريتا، ثم عودتها من الهند إلى القاهرة، وهى فى حالة اضطراب عقلى، سيدفعها إلى محاولة الانتحار فى بولاق أبوالعلا، وتحطم ساقيها، وعلاجها أولا فى القاهرة، ثم نقلها بعد ذلك إلى باريس، فإن صوت ريتا يكشف ما حدث لها فى رحلة تعلم اليوجا فى الهند، وتحديدا فى عيد ميلادها الثالث والثلاثين.
تنسب هى مأساتها إلى تأثير مدرب يوجا شرس، وتتحدث عن إعجابها بمدرب يوجا آخر شاب يدعى شاندرا، ثم تتطور الحالة إلى هلاوس، وفقدان للزمان والمكان، وتصرفات غير طبيعية فى الكنائس والمعابد، وصولا إلى الاعتقاد أنها مثل المسيح، الذى صلب فى سن الثالثة والثلاثين، وتنتهى بادعائها أنها نبية الحب والسلام، جاءت لكى تنهى عصر الخوف.
يتسلم ناجى السرد من جديد، ليحكى عن معاناته مع ريتا، عندما عادت إلى القاهرة، بعد علاجها فى فرنسا: حياة صعبة مضطربة، وأزمات متتالية، وإدمان الخمور، وفترات طويلة للعلاج المستمر، فى مستشفيات عقلية فى المقطم وحلوان.
فقدت ريتا عملها، وتوزع نشاطها بين اتجاهاتٍ كثيرة، لغات ورسم وحفلات، ثم تعود ريتا فى النهاية لتحكى تاريخ أسرتها المرضى، تتحدث عن طفولتها، وعن علاقة حب لم تنجح مع شاب فرنسى مثلى يدعى إيريك، يبدو المرض العقلى طريقا حتميّا، ويبدو الانتحار شبحا يطاردها فى كل مكان.
هنا بناء سردى معقد وحداثى، يزيد من براعته منهج التسجيل الدقيق للوقائع، إلى درجة متابعة ما حدث فى ساعاتٍ محددة من يوم واحد، أو تسجيل أحاديث ريتا غير المترابطة، سواء فى مستشفى باريس، أو فى القاهرة، شىء أقرب إلى دراسة الحالة نفسيا واجتماعيا وطبيا، بل وتشريحها فى أدق تصرفاتها، وإظهار وجهين للألم: معاناة ريتا، ومعاناة ناجى معها.
ملاحظة أخرى منحت النص حيوية فائقة: هذا المرض نقل العقل إلى حالة أقرب إلى العبث السيريالى، والوصول إلى ذروة المأساة، يضعنا على ضفاف المهزلة، قد لا يكون ذلك متعمدا أو مقصودا، ولكنه واضح فى الكتابة، التى تكاد تعبر عن الحياة بوجهيها: فالسيدة الذكية التى كانت ترافق الرحلات، والتى درست الفنون، وعشقت اللغات، تعانى فجأة من الاضطراب والتشوش، تبدِّد المال فى الشارع، وتصافح المارة وتقبلهم، وتخلع ملابسها بلا مبالاة، يتحول النظام إلى عبث كامل، وتظهر تعليقات ضاحكة من قلب المأساة، يتحول الإنسان حرفيا إلى بقايا كائن، ولعل هذا المزيج من التراجيديا والمهزلة، يفسر اقتباس الميرى من هيرمان هيسه عن علاقته بالمرأة، التى تحولت من دور العابد المبجل، إلى دورٍ أليم ومضحك، وهو ما حدث لناجى.
لا يفسر النص معنى العنوان، ولكنه يرمز إلى نهاية الأيام الحلوة، ليفقد ناجى إيمانه بالعناية الإلهية، ويتسلل نفس المعنى إلى صوت ريتا فى حديثها عن مأساة عائلتها، هذا الجزء الأخير كان بحاجة إلى فوضى تناسب حالة ريتا، ولكنه دال على محاولة المؤلف، بألا يصف من الخارج، وإنما يريد أن يحلل، ويفسر، ويتأمل، ويعترض.
لا تغلق الحكاية أقواسها، ولكنها تترك تأثيرا قويا، المرض الوراثى العابر يذكرنا بحبكة قديمة لا تنسى فى مسرحية هنريك إبسن «الأشباح»، وشخصية ريتا تبدو مثل حلم انتهى إلى كابوس، امرأة تشبه وجه طفلة عرفها ناجى فى صباه بالإسكندرية، فقدها، فضاع طعم الحياة.
هو الإنسان إذن بغموضه وتناقضاته، باختياراته وأقداره:
مارون جلاسيه، عمل، حب، وقفزة من النافذة فى بيت غامض.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved