الاقتصاد لا يحيا بتعويم العملة فقط

محمد مكى
محمد مكى

آخر تحديث: السبت 26 نوفمبر 2022 - 9:05 م بتوقيت القاهرة

يخطئ من يظن أن سعر العملة وحده قادر على إنعاش الاقتصاد، فهناك مقومات كثيرة أخرى سابقة، فمن يريد أن يبنى اقتصادا متماسكا وقويا ومستداما عليه أن يوفر للمستثمر أراضٍ بأسعار مناسبة وسهولة فى تراخيص بعيدة عن الرشاوى وطاقة بسعر تنافسى وقوانين عادلة تراعى الأبعاد الاستثمارية، وإعلام حر يظهر الحقيقية ويقف على الحياد، وبعد ذلك سهولة فى تحويل الأرباح إلى الخارج.
فقد كان سعر الصرف فى مصر لا يتجاوز 5.5 جنيه للدولار إبان الإصلاح المصرفى، مطلع الألفية الحالية حققنا معدل نمو قارب على 10%، فلا يغر سعر الصرف حكومة ولا شعبا على تحسن اقتصادى، فهو انعكاس لحالة عامة وتراكم إصلاحى، فليس شرطا أن تثنى المؤسسات الدولية وشركات التصنيف على قوة العملة، لنظن أننا قد نجونا، فما أكثر التقارير والتقييمات الخاطئة والكاذبة أحيانا، وما كان يقال على اليونان قبل الإفلاس وقت الأزمة المالية العالمية والتوقعات لدول جنوب شرق آسيا التى انهارت فى منتصف تسعينيات القرن الماضى عقب أيام من وصف تلك المؤسسات تجربتها الاقتصادية بالمعجزة وإطلاق لفظ النمور الآسيوية عليها ــ شاهد على ضحالة تلك التقارير. وكما الحال عندنا بعد تعويم نوفمبر 2016 وصدور إشادات كبرى سرعان ما استيقظنا منها على ديون وأزمات اقتصادية كبرى، وعُدنا نتجرع الألم مرة أخرى من اكتواء بنار الأسعار لحق بالجميع.
أن أول ما يكتب فى روشتة المؤسسات الدولية لحكومات الدول المأزومة ماليا هى تعويم العملة المحلية، وزيادة الضرائب وأسعار السلع الأساسية وأسعار الوقود، لكن من يتأمل موقف الدول التى أخذت العلاج واستندت إلى تلك الوصفات فقط لم تتعاف بل بعضها أغرق وأفلس، ودولة الأرجنتين مثال حى على ذلك. فالأسباب تختلف من دولة إلى أخرى، وكذلك العلاج وفى حالتنا تنمية ما نتميز فيه هو حجر الأساس بعيدا عن أدوية قد يكون بعضها فاسدا.
فقد شهد الجنيه بالفعل انخفاضا كبيرا فى قيمته هذا العام. وانخفض سعر صرف الجنيه لمستوى قياسى أمام الدولار أيضا، مع تشديد الأوضاع المالية والتأثيرات غير المباشرة للحرب فى أوكرانيا على الوضع الخارجى لمصر. وكان الجنيه أحد أسوأ العملات أداء، إذ انخفض بنسبة 56% أمام الدولار منذ شهر مارس بعد أن خفض البنك المركزى المصرى قيمة العملة المحلية مرتين. ومنذ إعلان البنك المركزى نهاية أكتوبر عن تبنى سعر صرف مرن، هبطت العملة المحلية بنسبة 24.5% وواصل الهبوط تدريجيا خلال شهر نوفمبر. وما زالنا نحاول معالجة تلك الآثار والتى كنا تعافينا منها ورجعنا مرة أخرى إليها بعد تكرار نفس الأخطاء والتركيز فقط على سعر للصرف واستمرار الخلل فى ترتيب الأولويات.
تجربة الوباء والحرب الروسية ــ الأكرانية تقول إن الصحة والتعليم فى المقدمة، وإن اقتصاد الدول الذى لا يقوم على الإنتاج يسقط، فالصناعة والزراعة ركيزتان أساسيتان ومهمتان فى بناء الاقتصاد، خاصة وأنهما الأقل تأثرا بالمقارنة بالعقارات والسياحة مثلا، وهو ما يتطلب أن توليهما الدولة اهتماما وحل مشاكلهما، فكل المصادر الريعية تتوقف على الأحوال الخارجية وليس الداخلية. وقد اقتصرت مواردنا من النقد الاجنبى التى تحد من مخاطر سعر الصرف فى الأعوام الماضية على تحويلات المصريين فى الخارج وقناة السويس.
الموازنة تعانى من عجز وأزمة الدين العام، سواء المحلى أو الخارجى، تتفاقم يوما بعد يوم فلا يجب أن نفرح بخفض العملة قروشا وارتفاع للاحتياطى للنقد الاجنبى، طالما أنها ليست ناتجة عن إنتاج حقيقى بل من قروض وودائع خارجية.. فقبل أن نسأل عن سعر الصرف نركز على ترشيد الإنفاق العام، والتوقف عن تعيين آلاف المستشارين فى الجهاز الإدارى للدولة، ونكافح الفساد والرشوة والتهرب الضريبى والجمركى.
نأمل ألا يقع الاقتصاد الوطنى ونلجأ للتعويم مرة أخرى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved