التكنولوجيا والتاريخ

محمد زهران
محمد زهران

آخر تحديث: السبت 26 نوفمبر 2022 - 9:10 م بتوقيت القاهرة

كاتب هذه السطور هو أكاديمى متخصص فى تصميم الحاسبات ومهتم بتاريخ وفلسفة العلوم، لكن الاهتمام الآخر الذى يطل برأسه من آن لآخر هو الاهتمام ببعض العلوم الإنسانية مثل التاريخ (تاريخ العلوم والتكنولوجيا هو فى النهاية جزء من الدراسات التاريخية) والفلسفة. وحيث أن المعلومات المنفصلة لا تعطى نفس الفائدة مثل المعلومات المتصلة ببعضها لأن العلم كل متصل فكان من الطبيعى أن أحاول أن أرى الجسور التى تربط بين تلك العلوم وبعضها، مقالنا اليوم عن الجسور التى تربط ما بين العلوم التاريخية والتكنولوجيا.
هذه الجسور ذات اتجاهين، الاتجاه الأول هو الأسهل فسنبدأ به وهو تأثير التاريخ على التكنولوجيا، أى تاريخ التكنولوجيا. عندما ندرس تاريخ التكنولوجيا فإننا نتعلم كيف تطورت التكنولوجيات المختلفة وما هى العوامل التى أدت إلى هذا التطور وبالتالى يساعدنا ذلك على تطوير التكنولوجيات الحالية، أيضا نتعلم لماذا اندثرت تكنولوجيات معينة وما العوامل التى أدت إلى ذلك وما هى المدة الزمنية التى احتاجتها التكنولوجيا الجديدة حتى تحل مكان القديمة وهل نواجه عوامل شبيهة الآن؟ كل ذلك يساعد على تطور التكنولوجيا.
الاتجاه الآخر أكثر تعقيدا وهو تأثير التكنولوجيا على التاريخ، ولا نقصد هنا تأثير التكنولوجيا على الأحداث التاريخية لكن تأثير التكنولوجيا على الدراسات التاريخية، أى هل غيرت التكنولوجيا من الطريقة التى يعمل بها المؤرخون؟ فى سنة 2015 قامت الجمعية الأمريكية للمؤرخين بسؤال أكثر من ألف ومائتى مؤرخ يعملون فى الجامعات الأمريكية عن استخدامهم للتكنولوجيا فى أبحاثهم. الغالب الأعم يستخدم المكتبات ووسائل البحث الرقمية وأجهزة التصوير الرقمية إلخ، هذه ليست مفاجأة لأن هذه التكنولوجيات أصبحت الآن مثل التليفون المحمول يستخدمها الجميع، تقريبا كل المؤرخين من سن 56 وأقل يستخدمون تلك الوسائل لكن أقل من 40% يستخدمون أية وسائل تكنولوجية أخرى، لكن ما هى تلك الوسائل الأخرى؟ هناك برمجيات تحليل النصوص (بعد رقمنتها طبعا)، مثلا عندما تجتمع لديك العديد من الوثائق التاريخية التى تخص فترة ما يمكنك استخدام تلك البرمجيات لترى إن كان هناك شىء أو صفة مشتركة مثل كلمة معينة تتكرر كثيرة أو أسلوب ما إلخ، نوع آخر من البرمجيات هى التطبيقات الإحصائية، هى مهمة فى الدراسات التاريخية لمعرفة اتجاه معين للأحداث فى حقبة معينة ومقارنتها بحقب أخرى وما شابه. نأتى الآن إلى التكنولوجيا التى يتكلم عنها الجميع الآن وهى الذكاء الاصطناعى. الذكاء الاصطناعى يمكنه تحليل وثيقة ما لمعرفة مثلا هل كتبها شخص واحد أم عدة أشخاص وهل اللغة التى كتبت بها هى اللغة المستخدمة فى العصر الذى يظن المؤرخ أنها منه، باحثون من معهد ماساشوستس التقنى (MIT) تمكنوا من تطوير برنامج يساعد على حل شفرة اللغات المفقودة باستخدام الذكاء الاصطناعى مما يساعد على كشف ألغاز الكثير من الوثائق فى مختلف بقاع المعمورة خاصة التى تخص الحضارات المندثرة، هذا البرنامج يعتمد على ما تعلمناه من الصفات المشتركة بين اللغات وخاصة القديمة منها، لبيان أهمية هذا البرنامج فإن حجر رشيد مثلا كان يشتمل على ثلاث لغات مما ساعد على معرفة وفك شفرة الهيروغليفية القديمة، لكن هذا البرنامج لا يحتاج إلى لغات أخرى لمقارنتها باللغة المطلوب فك شفرتها. تطبيقات الذكاء الاصطناعى بارعة جدا فى قراءة والتعرف على النصوص المكتوبة بخط ردىء أو تم طمس بعضها بسبب عوامل الزمن واهتراء الوثيقة التى تحتوى على النص، وهذه خاصية غاية فى الأهمية. أيضا الذكاء الاصطناعى يمكنه إعادة بناء الوجوه من الصور والتماثيل مما يجعلنا نعرف الشكل الأصلى (أو على الأقل نقترب من معرفته) للشخصيات التاريخية.
ما هى الرسالة التى يريد هذا المقال أن يقولها؟ أعتقد أننا قد نصل لنتائج مثيرة ومفيدة إذا تضافرت جهود باحثى علوم الحاسب والدراسات التاريخية، قد يدفع هذا التعاون علماء الحاسب إلى ابتكار تطبيقات تساعد المؤرخين بطرق أكثر كفاءة، هناك أيضا فائدة قد لا تكون واضحة وهى طريقة التفكير والتحليل التى يعمل بها علماء الحاسب وتختلف إلى حد ما عن علماء التاريخ مع وجود بعض الصفات المشتركة مثل التفكير النقدى مثلا، هذا الاختلاف قد يفيد الطرفين. قد تلاحظ أننى استخدمت لفظة «قد» كثيرا فى القطعة السابقة لأننا لن نعلم حجم الفائدة حتى نرى التعاون بين العلوم التطبيقية والعلوم الإنسانية.
هل نطمع أن نرى تعاونا بين كليات الهندسة وعلوم الحاسب عندنا وكليات الآداب؟ كما قلنا سابقا فى مقالات عدة ولن نمل من ترديدها: يجب أن نزيل الحوائط بين العلوم حتى تغذى العلوم بعضها بعضا وحتى تولد علوم جديدة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved