أهداف معلنة.. وأخرى مضمرة
سمير العيطة
آخر تحديث:
الأحد 26 نوفمبر 2023 - 9:25 م
بتوقيت القاهرة
الهُدَن لحظات فى الحروب، لا تعنى نهايتها اتفاقا لوقف إطلاق النار، بل قد تؤدى إلى تأجيجها. أغلب الحروب عرفت منذ القدم لحظات هُدَن، بما فيها الحروب العالمية الكبرى والحروب الأهلية.
تسمح لحظة الهدن بتخفيف الضغوط التى يتعرض لها القادة المسئولون عنها من قبل مجتمعاتهم والمجتمعات الأخرى. ذلك بغية إظهار أنهم يعيرون انتباها لمعايير غير القتال والانتصار، وبينها المعايير الإنسانية. ولكنها أيضا نتيجة تفاوض بين طرفى الحرب، يقيس كل منهما موازين قوته مع الآخر، ولحظة تتأمل فيها الأطراف استراتيجيتها وتستجمع قواها للمعارك القادمة.
• • •
لا تخرج هدنة حرب إسرائيل الحالية على الشعب الفلسطينى عن مثل هذه السياقات. مواضيعها المُعلنة تتمثل فى تبادل الأسرى ووصول المساعدات إلى غزة، حيث يسود الجوع والحاجة. وما كان للقادة الإسرائيليين القبول بها إلا من جراء انقلاب أغلبية الرأى العام العالمى على أكاذيب تبرير حربهم، بأن ما حدث فى 7 أكتوبر كان «محرقة» (هولوكوست) ثانية لليهود. واللافت أن التكذيب جاء من إسرائيل ذاتها التى نشرت وسائل إعلامها كيف أن فوضى الجيش الإسرائيلى يومها هى التى أدت إلى مصرع أكثر من نصف الضحايا الإسرائيليين وأغلب السكان المدنيين.
لكن انقلاب الرأى العام العالمى شعبيا لم يرافقه انقلاب مماثل على صعيد كثير من الحكومات والقوى المهيمنة فى الغرب. هكذا ما زالت وسائل الإعلام الكبرى فى هذا الغرب تفرق بين أسرى ورهائن، أطفالا ونساء وكبارا بالنسبة للجانب الإسرائيلى، مقارنة مع نساء و«من هم دون الثامنة عشرة» بالنسبة للجانب الفلسطينى، حيث يُنزع عنهم وصف الطفولة قصدا. الإسرائيليون رهائن، والفلسطينيون أسرى، رغم أن معظمهم لم يحصلوا على محاكمة ويعودون إلى مناطق أهلهم التى تحتلها إسرائيل أصلا، ويمكنها أن تعيد أسرهم فى أى وقت. هذا خاصة أن لا هدنة فى حرب الضفة والقدس. ولا تأخذ مشاهد سلوك المقاومين الفلسطينيين حيال أسراهم قبل تحريرهم سبيلها إلى المُشاهدة والمُشاهد الغربى، وتمنع القوات الإسرائيلية المقابلات مع محتجزاتها المحررات. هذا فى حين يبقى حجم المساعدات التى تمر إلى غزة أقل بكثير مما كان يصلها ويمثل حاجاتها قبل الحرب.
• • •
الهدنة هى بالتالى وسيلة لمعركة على صعيد الرأى العام بانتظار استعادة القصف والقتال. لكن هناك أبعادا مضمرة فى الخفاء لهذه الهُدنة، لا تقل أهمية عن الأبعاد المُعلنة. إذ شملت الهدنة أيضا الأطراف الأخرى المنخرطة فى الحرب، وإن بصيغة مختلفة عن تلك بين إسرائيل وفلسطين، أى لبنان والعراق واليمن. لقد التزم حزب الله أيضا بالهدنة. ما يعنى أن تفاوضا دوليّا وإقليميا أكبر يجرى حول مآلات هذه الحرب. هل ستتوسع أم سيتم إيقافها؟ وكيف؟
ما زال قادة الحكومة الإسرائيلية يصرحون أنهم سيعاودون الحرب حتى القضاء على تنظيم حماس، ولا عودة لإدارة قطاع غزة كما كانت عليه قبل 7 أكتوبر. وهم يمنعون حتى خلال الهدنة الفلسطينيين من معاينة ما جرى من دمار فى شمال القطاع. كما يصرحون أن هدف الحرب هو إبعاد حزب الله بشكلٍ دائم عن الحدود، خاصة بعد تصاعد ضغوط هذا الأخير على القواعد العسكرية المتاخمة. وما يعنى أن القادة الإسرائيليين ذاهبون إلى توسيع مدى الحرب.
بالمقابل، يعمل قادة «القسام» على اختيار معظم الأسرى المحررين من الضفة الغربية والقدس، لكسب دعم الأهالى هناك لقضيتهم، وكى تصبح حركة حماس لاعبا أساسيا فى أى تفاوض سياسى لاحق. هذا فى الوقت التى تفقد فيه السلطة الفلسطينية وقيادات «فتح» هيبتها ومحوريتها على الساحة الفلسطينية ويبرُز عجزها أمام هول الأحداث. وهذا الأمر يظهر واضحا فى موقف فلسطينيى الأردن. وفى لبنان، يحشد حزب الله قواه وجماهيره، حيث يكسب على صعيد الرأى العام اللبنانى فى طريقة إدارته للحرب والهدنة، حتى لدى أغلب مناوئيه التقليديين.
• • •
على صعيد آخر، يبرز خلال الهدنة دور وسطاء التفاوض بين حكومة نتنياهو وحماس ومع الولايات المتحدة، خاصة دولة قطر. هذا الدور يجعلهم أيضا فى موقع يضحون فيه هم وسطاء «حل» ما بعد الحرب. سواء إدارة ما سيبقى من قطاع غزة بعد تدمير شماله واحتلاله وتهجير أهله أو حتى الوعود حول «سلام دائم» بـ«حل الدولتين». فى حين تغيب عن الساحة دولتا «جوار» كان مفترضا أن ترميا بثقلهما، وإن كانا على صعيدين مختلفين: السعودية وسوريا. بعد أن فقدت الدول الأوروبية الكبرى، ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، مصداقيتها إقليميا لما جلب به انقلاب الرأى العام فى بلادها من انتقادات على سياسات القائمين عليها وعلى مدى تعديات «دولها العميقة» على حرية التعبير. القيمة الأساسية فى الديموقراطية هى حرية التعبير، التى كانت من أكبر الخاسرين فى هذه الحرب. تركيا أيضا بدت محيّدة رغم علاقاتها المميّزة مع كلّ من حماس وإسرائيل. وكذلك هو الأمر بالنسبة لروسيا والصين.
الخطاب حول تمديد الهدنة جزء من إدارتها وإدارة مسار ما بعدها. وفى الوقت الذى تتركز الأنظار حول مصير الأشخاص المحتجزين الإسرائيليين والفلسطينيين، يستمر تدفق السلاح نحو إسرائيل، بما فى ذلك من قواعد عسكرية أمريكية فى دول الخليج ومن أوروبا.
التساؤل الكبير اليوم هو حول الولايات المتحدة الأمريكية. إلى أى مدى ستسمح إدارة بايدن باستمرار حرب إسرائيل على الشعب الفلسطينى بل إلى توسعها إلى لبنان وغيره بعد الهدنة؟ إنها الوحيدة التى تعطى الضوء الأخضر لهذا الاستمرار والتوسع، أو تستطيع فى المقابل الضغط على القادة الإسرائيليين وإرغامهم على التوقف، وتحويل الهدنة إلى وقف لإطلاق النار. لكنها دخلت فى مرحلة انتخاباتها الرئاسية، ما يعنى أن توسع الحرب وبالتالى انخراطها بها سيشكلان عنصرا أساسيا غير مسبوق فى مثل هذه الانتخابات. هذا فى وقت تبرز أصوات عالية وواسعة لليهود الأمريكيين تناهض الحرب وجرائم الإبادة الإسرائيلية، «ليس باسمنا». أصوات لا مثيل لها فى بلاد أوروبية مثل فرنسا وألمانيا، فى حين تذهب أصوات المسيحيين الألفيين المناصرين للمستوطنين المتطرفين فى إسرائيل عادة إلى غريم الرئيس بايدن: دونالد ترامب، أو أى مرشح ديموقراطى آخر.
بالمقابل، يُمكن لخيار التوجه نحو وقف دائم لإطلاق النار أن يقود لمفاوضات كبرى حول السلام والدولة الفلسطينية لترميم صورة إسرائيل وداعميها التى أصبحت راسخة عالميا. إنها دولة احتلال استيطانى تنتهج الإبادة الجماعية، وأن الدول التى تناصرها هى دول استعمارية تدعم احتلالها أو دول أخرى مغيبة بسبب ضعف القائمين عليها. هذا يعنى أن فلسطين تبقى رمزا عالميّا لمقاومة الاحتلال ولمناهضة الاستعمار. والخطاب حول نشر الديمقراطية لا معنى له فى ظل الاحتلال والاستعمار والتعدى على الحريات العامة فى الديموقراطيات الراسخة. ولا يشكّل سوى صدى لخطاب نشر «الحضارة» الذى كان سائدا فى ظل التوسع الاستعمارى خلال القرن التاسع عشر.