حرب غزة تُنهي أسطورة الرجل الأبيض المتفوق
قضايا إستراتيجية
آخر تحديث:
الأحد 26 نوفمبر 2023 - 9:25 م
بتوقيت القاهرة
نشر موقع 180 مقالا للكاتب الفضل شلق، يقول فيه إن حرب الإبادة ــ التى تجرى للشعب الفلسطينى فى غزة ــ كشفت عن كم الحقد والكراهية بالروح الغربية، وأن جوهر هذه الروح الأيديولوجية الصهيونية لا الضمير الإنسانى. كما أكد الكاتب فى ختام مقاله أن الغرب سيخرج من هذه الحرب وقد أنهى أسطورته عن تفوّق الرجل الأبيض... نعرض من المقال ما يلى:
فى قلب التقدم الغربى وحش تتضاءل لديه الأخلاق بمقدار حداثته. الحروب العالمية للقرن العشرين تتوالى فى القرن الواحد والعشرين بشراستها وقدرتها المتزايدة على القتل والتدمير بوسائل أكثر فاعلية، وإن كانت هذه الحروب أكثر موضوعية، لكن ما يحدث فى فلسطين حرب عالمية من نوع آخر بين قوى غير متكافئة.
ليست إبادة شعب مسألة حق أو باطل، فلا تخضع لمعايير الحق والعدل والظلم. كل شعب يُباد أو يتعرض للإبادة هو مظلوم حكما إذ إن وجوده معرض للزوال. مهما كانت القضية عند إسرائيل والغرب، فإنها ليست حجة للإبادة. يزعمون أن إسرائيل تدافع عن نفسها ولها الحق فى ذلك، بينما هى تُمارس الهجوم اليومى، وعلى مدار الساعة دون مراعاة للضحايا. لن نبكى النساء والأطفال فقط، فكأن من هم فى سن القتال مسموح أخلاقيا قتلهم. الحقيقة أننا نبكى ثقافة الغرب وانزياحاته ضد شعب فلسطينى لاحقه الظلم منذ عقود.
لم تتحسن الروح الغربية أخلاقيا فى ضوء التطوّر التقنى الهائل بل بقيت فى مكنوناتها على ما كان يُضمره الاستعمار. لم نكن نتوقع أقل مما يحدث فى غزة منذ اللحظة الأولى فى 7 أكتوبر، لكن أحدا، حتى عتاة التعصّب اليمينى والمعادى للعرب فى الغرب، لم يكونوا يدركون أن نفوسهم تفيض بهذا القدر من الحقد والكراهية.
سيحصل نقاش حول العالم، وفى ما بيننا، حول ما إذا كان موقف الغرب من حرب الإبادة فى غزة يُعبّر عن انحدار أخلاقى لمجتمعات غربية، لم تكن كذلك وصارت فجأة أسوأ مما نظن، وحول ما إذا كانت هذه الوحشية أصيلة فى الروح الغربية، وحول ما إذا كانت تحيزاتنا الغربية، وحتى الماركسية، تُعمينا عن ذلك. لا نستطيع إلا الاستنتاج مما نرى من الواقع الذى تُصوّره محطات التلفزيون من مواقف القوى الفاعلة الغربية بأن الكولونيالية الغربية ما زالت هى المُحرّك، وهى تزداد عمقا وليس العكس. السقوط الثقافى للغرب هو فى جوهره سقوط أخلاقى. هم يعرفون أن إسرائيل تأسست على جملة من الأكاذيب ساهم الغربيون فيها. وهم يعرفون أن مؤدى هذه الأكاذيب اقتلاع شعب عربى من أرضه، أو إبادته، لإسكان مجموعات أوروبية صهيونية تجمعت من مختلف نواحى العالم، وهم سوف يدركون، أو لا يدركون، والأمر سيّان، أن هذه الأكاذيب سوف تنخر فى عظام الثقافة الغربية. بدأت الأكاذيب فى ادعاء أرض موعودة موضوعة فى كتاب مقدس من أكثر من ألفى عام. الأكثر فداحة هو اعتبار أن إسرائيل ضحية تدافع عن نفسها فى وقت تمارس استخدام أسلحة الغرب لقصف وتدمير واقتلاع أهل الأرض، وفى حين أن ما يفعله هؤلاء الأخيرون هو المطالبة بحقوقهم أو بالخروج من السجن الكبير. فى المقابل، هناك من يعتبر أن أى تهديد لأمن إسرائيل إنما هو تهديد للروح الغربية. كولونيالية فى ثوب جديد. لكن الأمر أكثر من ذلك. فهذا البعبع الصهيونى الذى اخترعه الغرب أصبح جوهر الروح الغربية التى يتآكل فيها ما كان مبهرا تحت تأثير هذا الكيان البعبع الذى يُخيفهم أكثر مما يخيفنا. الثقافة الغربية أصبحت ممسوكة من رقبتها بواسطة الاتهامات باللاسامية. كل من ينتقد إسرائيل يُتهم باللاسامية، وربما فقد عمله ومصدر رزقه. أما أهل الأرض الحقيقيون فهم الإرهاب. يتناسى الغرب أنه هو من اضطهد اليهود عبر التاريخ بينما هم لم يُعاملوا من قبل الشعوب العربية والإسلامية عموما، بأى شىء مما يشبه ما لاقوه فى الغرب.
تآكل الثقافة والأخلاق فى الغرب هو تهديد حقيقى لهما، ويكون ذلك بأن يصير الغرب ذا مصدر لما هو عليه من خارج ذاته. بفجاجة أكثر، يكون منقادا لإسرائيل والأكاذيب التى أُسّست عليها، فتصير العلاقة مع العرب وإسرائيل عنصرية قائمة على الحقد والكره والاستعلاء، كما هو أمر إسرائيل اليوم مع العرب. لا يعنى ذلك أنه ليس عند الغرب شىء من ذلك، أو الكثير منه. لكن مصدر هذه الأمور البشعة سيكون نابعا من إسرائيل، متدفقا إلى الغرب، لا العكس، وسيكون الغرب منقادا لإسرائيل عن طريق مكافحة اللاسامية وغيرها. يكفى أن تنتقد إسرائيل أو الصهيونية كى تتهم باللاسامية. فى بعض البلدان الأوروبية يكفى أن تقول كلمة فلسطين كى تتهم باللاسامية، ناهينا عن الاتهامات لمن لا يليق لهم بالإرهاب. فالجعبة مليئة بالعديد من الاتهامات الجاهزة عن حق أو غير حق لاتهام أى كان بالخروج على القانون، حتى أن الجامعات كلّفت لجانا للبحث عن أية لاسامية عند أى من الطلاب ومعاقبته، وذلك بضغط من الجماعات الصهيونية.
مباحُ للمرء انتقاد أى بلد غربى لكنه عندما ينتقد الصهيونية أو إسرائيل، تُوجّه إليه تهمة اللاسامية أو تهمة الإرهاب. الذعر الغربى من الخروج على (اللياقة السياسية) يُعرّض صاحبه للاضطهاد كما فى بلدان الاستبداد. تساهم فى القمع السلطات السياسية والأكاديمية والاقتصادية والمالية الغربية. تفرض إسرائيل على الغرب حدود الضمير الأخلاقى والعقل، فيعيش الناس فى حالة دائمة من الخوف أو الرعب من إتيان الخطأ. يراقب كل امرئ نفسه حسب شروط تفرضها ضرورات عدم إزعاج الجماعات الصهيونية ومؤيديها سواء كانوا من اليهود أو المسيحيين الصهاينة أو غيرهم ممن يبحث عن رءوس يصطادها.
خرج الغرب من الحرب العالمية منتصرا أخلاقيا وثقافيا. لكنه سيخرج من حرب غزة منخلعا نفسيا وروحيا مهما كانت المكتسبات المادية له ولإسرائيل. وبذلك يمكن القول إن الغرب أنهى أسطورته عن تفوّق الرجل الأبيض.
النص الأصلى