«جنازة جديدة لعماد حمدى».. بين الفن والسلطة

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: الخميس 26 ديسمبر 2019 - 8:25 م بتوقيت القاهرة

تمتلك هذه الرواية طرافتها وتفردها، ذلك أنها تضرب بسهم فى عالم الواقع، وبأسهم فى عالم الفن، وترسم فى الحالتين نماذج بشرية عجيبة، وأجواء أعجب، وتلتقى على صفحاتها أضداد كثيرة، لا يكتفى مؤلفها بذلك، ولكنه يختبر معنى السلطة والفن والمكانة فى عملة ذات وجهين، واللعبة السردية مفتوحة دائما على كل الاحتمالات.
«جنازة جديدة لعماد حمدى» لوحيد الطويلة، الصادرة عن دار الشروق، تستمد جاذبيتها من تزاوج الملهاة والمأساة، وتمتلئ بتفاصيل مدهشة عن عالم البوليس، وعالم اللصوص والمهربين والنصابين والمسجلين، لوحة واحدة يكمل كل جزء منها الآخر، ملونة بألوان الطبائع البشرية، موقعة بيد بطلها الفنان، وخلفه ذلك الراوى المراوغ الذى لا يقنع بحقيقة واحدة، والذى يريد للقارئ أن يكون شريكا، وليس مراقبا أو متفرجا.
هى رواية شخصيات بالأساس، حدث واحد يستدعى متحفا بأكمله: سرادق منصوب للعزاء، ابن ناجح صاحب المقهى قتل فى مشاجرة، هناك شك فى أن أحدا قتل الابن، أما ناجح فليس شخصية عادية؛ لأنه كبير المسجلين خطر، وكبير مرشدى البوليس فى الوقت نفسه، لعبة العملة ذات الوجهين تبدأ مبكرا، وتنتقل بمهارة إلى الشخصية الثانية المناظرة، وقد شيد الطويلة على الشخصيتين البناء كله.
إنه ضابط البوليس الذى أحالوه إلى المعاش، المؤسسة التى طلبت منه أن يستخدم مسجلا خطرا كمرشد، عادت لتتهمه بإقامة علاقة مع مسجل خطر، الضابط يعشق الرسم، ودخل الشرطة بناء على أوامر والده الضابط القديم، وبينما يحمل المسجل اسم ناجح، فإن الضابط المحال للمعاش أطلقوا عليه «فجنون»؛ أى ذلك المزيج بين الفن والجنون.
والآن هذه هى اللقطة الثابتة: سرادق عزاء عجيب يتكدس بداخله الخارجون عن القانون، ويتصدره ناجح وسط الدخان الأزرق، وضابط متردد يتذكر حياته، فيستدعى المسجلين خطر، والمسجلات آداب، والنصابين، مثلما يستدعى حكايته مع مرشده الأكبر، ومسجله الأخطر ناجح، فجنون متردد فى الذهاب للعزاء، فنان يرسم لوحات، ولكن لوحته الكبرى هى الحياة بوجوهها: العسكر، والحرامية، وبينهما المرشدون.
ولكن تجميد اللقطة لم يفسد السرد؛ لأن جراب الشخصيات مكتظ، وحكاياتها لا تنتهى، ولأن الخطوط تبدو واهية رغم اختلاف المواقع، فالمقارنة مستمرة بين سلطة الضابط، وسلطة المسجل، وبين فن الضابط المكبوت، وفن المرشد الملموس، وهناك فئة أصدقاء الشرطة الباحثون عن تعويض أحلامهم الفاشلة، أو الذين يشبعون هواياتهم كمحققين من الباطن، وتحت مظلة ضابط حقيقى، وهناك نصابون منتحلون صرحاء، يلبسون البدلة الميرى، بل ويرقون أنفسهم، ويتم اكتشافهم بالصدفة!
الصورة تبدو ثابتة من بعيد، ولكن إذ نتوقف عند كل شخصية، تبدأ حركة مجتمع بأكمله، من القمة إلى القاع، وبالعكس، البناء هنا بالعرض وبالعمق، ومفهوم الفن والسلطة فى كل الاتجاهات، واللعبة لا تنتهى أبدا، حتى الضابط السارد ينازعة سارد آخر مستتر، يشككنا فيما قرأنا، ويذكرنا بقانون اللعبة: واقع مرسوم بريشة الفن، وفن يريد تجميد الواقع، وسبر أغواره وتناقضاته.
وبينما ينفتح السرد على سرادق عزاء ابن ناجح، فتنطلق الشخصيات والحكايات من هذه البؤرة، فإن عنوان الرواية يحمل اسم جنازة الفنان عماد حمدى، التى شهدها الضابط بحكم خدمته، وهى فى الرواية عنوان على نهاية الفنان المؤلمة، بعد سنوات تحت الأضواء والنجومية، وإذ يتمنى «فجنون» أن تكون هناك جنازة أفخم وأعظم لعماد حمدى، تليق به وبتاريخه، فإنه يريد بذلك أن ينتزع الفن سلطة دائمة، ولكن السلطة مراوغة، والفن والشهرة أيضا.
مفتاح هذه الرواية فى لعبتين: لعبة الفن، ولعبة السلطة، لوحة مرسومة على القماش، وأخرى مكتوبة على الورق، فى صدارة اللوحتين ضابط ومسجل ومرشد ومعاونين من الهواة، وفى الخلفية أجساد متلاصقة متعددة الرؤوس: عاهرات وأوغاد ونصابون وخطافون وكذابون، صارعوا الحياة وصارعتهم، ترك فجنون الوظيفة ولكنها لم تتركه، شخصيات مهنته صارت لوحة هائلة ابتلعته، المؤسسة استردت البدلة، بينما استرد ناجح صفته الأصلية، وسلطته الأولى.
كان ناجح مفتاحا أساسيا فى اكتشاف جرائم قتل يحققها «فجنون»، الآن على المسجل خطر أن يتولى قضية قتل ابنه بدون مساعدة، أو عليه أن يسير مع الحياة من جديد.
البدايات كتبها وحيد الطويلة، والنهايات تكملها بخيالك، أو تختار منها ما تريد، المهم أن الفن صار شهادة على الواقع، مثلما أصبح الواقع فنا يثير الدهشة والتأمل.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved