دليڤري

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 26 ديسمبر 2019 - 8:30 م بتوقيت القاهرة

عندما سقط ابن خالتها نادر فريسة المرض إياه اختل توازنها تمامًا، صحيح أنها بلغت من درجات العلم أرفعها لكنها مثلها مثل أبسط امرأة وجدت نفسها لا تقوي علي أن تنطق اسم المرض إياه، إنها تتجاهل هذا المرض.. تحقّره.. تتجنبه.. تبنيه للمجهول، فهذا أمر لا علاقة له بمستوي التعليم لكنه وثيق الصلة بالقدرة علي التحمل، وهي غير قادرة. نادر بالنسبة لها ليس هو مجرد الحب الأول، فبعده أحبت وتزوجت.. تصحيح بسيط هي لم تحب بل تصورت أنها تحب، ولعلها لم تحبُ أحداً أبداً. نادر هو قريبها المقيم في باريس من سنين طويلة وتتواصل معه رغم البعد، قبل أن تتعرف علي الڤايبر والواتساب كانت تنتظر دورها بالساعة حتي يطلب لها نمرته موظف السنترال ثم يناديها لتدخل في الكابينة المغلقة وتختلي بصوت نادر وتنزع حفيظتها. قليلاً ما كانت تراسله ليس فقط لأنها لا تجيد الكتابة لكن أيضا لأن التراسل يأخذ وقته، وهي في كثير من الأحيان كانت تحتاج رأيه علي وجه السرعة اليوم.. هذا الصباح.. الآن.. فوراً. في مشاكل طلاقها وكانت بالكوم لم تكن تشاور إلا نادر، ماتت خالته أي أمها ففتح معها نادر خطًا ساخناً للدعم والمواساة، تخطاها مديرها في الترقية فاحتوى نادر ثائرتها واكتشفت معه الحكمة البسيطة/ العبقرية التي تقول إن هذه ليست نهاية العالم، احتاجت لقرض.. لدواء..لآي باد.. لكتاب فكان كل شي يأتيها من نادر مع أول مسافر من عاصمة النور إلي أم الدنيا. بدا لها نادر كملاك حارس من تلك الملائكة التي ترفرف فوق القديسين لتحميهم وتوّمن لهم طريق السلامة، لا لا لا هذا تشبيه ظالم، هو ملاك فعلاً أما هي فليست قديسة، كان حبها الأول وكانت هي حبه الوحيد، هي تزوجت وهو لا، هي بقت مكانها وهو هرب، هي تأخذ وهو يعطي، هما مختلفان. والآن ..الآن سقط نادر مغشياً عليه، وعرف/ عرفت الخبر الصاعق عن المرض إياه الذي تسلل إليه خفية فأرقده وصارت تحتاج إليه ولا تجده. لعقت دمعة فيها حزن هذا أكيد، لكن فيها أيضاً أنانية لا سبيل لإنكارها.
في إحدى لحظات الشجاعة قررت أن تواجه نفسها وتسأل: ماذا أريد من نادر؟ أريددددد، تقطّعت أنفاسها، نحن لا نحب أن نصارح أنفسنا بنقائصنا، ونقيصة العلاقة بين صاحبتنا وابن خالتها أنها علاقة ابتزاز، علاقة ابتزاز مغّلفة بأغلفة القرابة والعَشَم والحب القديم، ففي اللحظة نفسها التي تملكها شعور عميق بالقلق علي نادر وهو مُسّجي وحيداً في غربته، كان ثمة شعور آخر بالحيرة أو حتي بالضياع ينافس شعورها بالقلق وكأن لسان حالها يقول إنه مازال هناك الكثير من الأمور التي تحتاج فيها رأي نادر: الثمن المعروض عليها في أرض أسيوط، أشجار حديقتها التي تذبل، تجديد سيارتها التي تكررت أعطالها، نادر يفهم في كل شيء وقراره دائماً حكيم فمن سواه يفتيها؟ تباً لأنانيتك! خجلت من نفسها، خجلت من أنه حين سقط نادر فإنها لم تفكر فيه كإنسان من لحم ودم بل فكرت فيه كمجرد عامل دليڤري توقف فجأة عن توصيل الطلبات إلي الزبائن فارتبكت حياتهم. في خطوة متأخرة حاولت أن تتدارك الأمر وتنقّي مشاعرها من الأنانية فلا يعود يتبقى منها إلا القلق علي نادر ولا شيء آخر غير القلق، لكن مسكينة صاحبتنا تظن أن المشاعر مثل حبات الأرز والعدس يمكنها أن تلتقط منها ما يخالطها من شوائب قبل الطهي، لا تعرف أن كل تدخل عمدي لغربلة المشاعر يفقدها تلقائيتها، ومع ذلك هي فضلت أن تكون نصف إنسان علي أن تفقد إنسانيتها بالكامل .

أعادت ظهر المقعد إلي وضعه المستقيم والطائرة توشك أن تحط علي أرض مطار شارل ديجول فتساقطت من رأسها عشرات الهواجس والتساؤلات، كيف سيبدو لها نادر بعد آخر مرة رأته فيها علي الواتس آب، أتراه سيبدو شاحباً؟ عادياً؟ متألمًا؟ متماسكًا؟ عاتباً؟ عازفاً؟ مُرَحّباً؟ بل هل سيكون واعياً؟ من بين التفاصيل المخجلة التي اكتشفتها مؤخراً أنها لم تسأل نادر أبداً عن تليفون أيّ من أصحابه وبالتالي فما أن أبلغها بمرضه وبدأ رحلة العلاج حتي انقطعت عنها أخباره ولَم تجد أحداً يبل ريقها. لم تتصور صاحبتنا أن عمال الدليڤري يمرضون ولا وضعت هذا الاحتمال في حسابها، فإذا بنادر يداهمها بمرضه ويختفي وكل ما تعرفه عنه أنه يقيم بإحدى ضواحي العاصمة الفرنسية : ضاحية لاديفانس، تضاءلَت نفسها وتضاءلَت.
هطل عليها مطر باريسي غزير ولفح وجهها برد يناير فكتمت أنفاسها بكوفيتها الصوف ودفعت بجسدها سريعاً إلي داخل التاكسي، راحت مشاهد الطريق تتوالي أمامها ومعها صور مختلفة لعلاقتها بنادر بل الأصح لعلاقاتها بنادر فقد لعب ابن الخالة في حياتها تقريباً كل الأدوار من أول دور الحبيب حتي دور الأب. شعرت بشيء يتكون تجاهه في داخلها رويداً رويداً ثم يكبر ويكبر حتي يملأ كل فراغاتها فاستسلمت له دون مقاومة. تخيلت أنها تهيئ نفسها لرؤية نادر بهذا الحنين نحوه كإنسان وليس كجبل من الهدايا والنصائح والأمنيات الطيبة، وعجبت كيف ازدهر هذا الحنين وطال وتشعب كنبت شيطاني بسرعة الصاروخ، لكنها قالت: لعل المطر الغزير رواه .
انتصبت واقفة أمام نادر وكل ما فيها يرتعش، هدأت قليلًا لرؤية فرحته الغامرة تفتك تقاطيعه الطيبة من تعبيرات الدهشة وهو يراها أمامه هكذا دون سابق إنذار، التقطت يده بجفافها وعروقها وبرودتها ووخزات الكانيولا التي ترسم عليها معالم الطريق إلي المجهول. انهالت عليها سياط الضمير تجلدها وتدميها لكنها أخذت تتلذذ بالألم وتتطهر بالمعاناة، فاجأها صدقها.. فاجأها فعلا فإذا بروحها ودموعها تنصهر في كتلة واحدة تضع بالكاد علي لسانها كلمة: سلامتك! ابتسم نادر.. اتسعت ابتسامته وشُبِه لها أنه قام من رقدته، ومن يدري فلعله فعلًا قام .

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved