عزبة طناش

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: الأحد 27 يناير 2013 - 8:25 ص بتوقيت القاهرة

تذكر الجار الذى يضحك فى وجهك باسما فى كل مرة تحاول التفاوض معه على إجراء أعمال الصيانة أو بعض التجديدات فى مكان سكنكم، ويكون له خطة عمل واضحة لا يجاهر بها كى لا يدخل معك فى نقاش أو جدل قد لا يحسم لصالحه لأن أغلبية السكان لا تشاركه الرأى ولأنك قد تتفوق عليه إذا طارحته الحجة بالحجة، فيقرر ببساطة أن يبتسم لما تقول، ولا يعطى ردا واضحا، ثم ينفذ فى النهاية ما يريد بالضبط... هو لا يترك لك خيارا سوى الصدام أو الاستسلام والرضوخ... أن تدخل معه فى مواجهة مفتوحة قد تستمر أو أن تسير فى حياتك وكأن شيئا لم يكن، مع بعض الشعور بالعجز أمام انهزامتك الصغيرة.

•••

تذكر أيضا كيف تطلب أحيانا إلى بعض المحيطين بك احترام وقتك وارسال العمل المطلوب منهم فى الموعد المحدد، فيهزون رؤوسهم بالإيجاب على طريقة فض المجالس، ثم يفعلون بعد ذلك ما يناسبهم، غير مبالين بالآخرين... هم فقط يقولون: ماشى أو تمام، مع شبه ابتسامة أو ارتخاء فى الشفتين، لتمرير الموقف بسلام دون ضرر لهم... أى «ينفضولك»، كما نقول بالعامية، ومن قبلها انتشر تعبير «كبر» أو «كبر دماغك»، ومن قبلها كان هناك «طنش» أو «طنش تعش منتعش»، و«طز» وأحيانا «طز فش»... هذه الألفاظ والتعبيرات التى تفرزها العامية وتدخل قاموس «الروشنة» من وقت لآخر لا تأتى من فراغ، فلها دلالتها بالنسبة للشخصية المصرية التى تبتكر ما يناسبها من كلمات تعبر عنها. والحقيقة أننى أجد لفظة «نفض له»، وهى الأحدث، أشدها جميعا، فالصورة التى تبرزها بليغة: أنت تذيل آثار كل الكلام الذى سمعته من أذنيك كما تفعل بالأتربة من على قطعة الأثاث... فى حين أن كلمة «طنش» كان معناها فقط «لم يستجب» بالهيروغليفية، أما «تكبير الدماغ» الذى يهدد أحيانا الدولة بأكملها فقد اتضح أن له أصول علمية: لأن الدماغ كغيره من أعضاء الجسم يكبر ويزداد حجمه مع التقدم فى العمر، وبعد سن الخمسين يأخذ هذا الحجم فى الانخفاض ولكن بنسبة بسيطة. وأثبتت الدراسات أن التأمل «يكبر الدماغ»، فبعض مناطق الدماغ لدى الأشخاص الذين يمارسون التأمل لفترات طويلة تكون أكبر من غيرهم، الأمر الذى يمكنهم من تعزيز المشاعر الايجابية والحفاظ على الاستقرار العاطفى، وهو تقريبا المبدأ نفسه الذى يتم تطبيقه تجاه الأشياء المزعجة والمشكلات «عندما نكبر دماغنا» فى التعاملات.

•••

نعانى بوضوح من فشل فى عملية «التطبيع الإجتماعى»، هذه العملية التى تجعل الفرد عادة يتخلى عن جانب من نزعته الفردية والأنانية التى يولد بها ليتفاهم ويتعاون فى ظل تنظيم اجتماعى أو إدارى أو قانونى، وإذا لم ننجح فى «التطبيع الإجتماعي» تظهر شخصية «الفهلوي» الذى يجيد إظهار الموافقة ومسايرة الآخرين، مع «التنفيض» و«تكبير الدماغ» ليتخذ مواقف شكلية على سبيل المجاملة أو فض المجالس والخوف من العقاب، فيبتسم ويتظاهر بالعمل مع الجماعة ولكن بلا روح ولا التزام. وهكذا تغيب روح الفريق والقدرة على العمل الجماعى فى ظل قيادة، كما يحلل استشارى الطب النفسى، الدكتور محمد المهدى، فى دراسة له عن تطورات الشخصية المصرية، موضحا كيف يبحث الفهلوى دوما عن وسيلة تجعله يقفز على المراحل بالكذب والتزوير وخلافه حتى يصل إلى الغنيمة دون تعب أو مثابرة، فالحماس للعمل ينطفئ فى لحظة، والعامل يفضل «الكلفتة» ولا يريد أن يضيع وقته فى الإتقان والتشطيب لكى يبلغ الكمال، بل «ينفض للزبون» و«يكبر دماغه»... تطلب منه شيئا، فيبتسم الابتسامة المعهودة ويفعل ما يريد.. وهو ما يحدث فى مصر حاليا على جميع المستويات، من الرئيس للغفير، دون المساس بأحد واحترامى للجميع، فالطيور على أشكالها تقع.. وقد تعرض المصريون لفترات استعمار واستبداد وقهر أدت إلى علاقة سلبية مع السلطة على مر العصور وكان ذلك يفوق قدرتهم على التمرد، وهنا تظهر كلمة أخرى من قاموس العامية وهى «طز»... عندما لا نبالى بالعيشة ومن فيها، ونرددها كما كان يفعل العرب عندما يمرون من بوابة العساكر الأتراك فى ظل الحكم العثمانى وهم يحملون أكياس الملح لمبادلتها بالقمح، ولأن «طز» بالتركية تعنى «ملح» فقد كان العسكرى يشير إليهم إيذانا بالدخول متسائلا: «طز؟»، فيجيب العربي: «طز» أى فقط ملح ولا شيء يذكر، فيدخل دون تفتيش.

•••

ونستغرب التسميات والمصادفات اللغوية، ففى مصر توجد أيضا جزيرة «طناش» وهى التى اعتصم أهلها فى العام 2010 على الطريق الدائرى بعد ترسيم الحدود بين محافظتى الجيزة وأكتوبر وقتها، إذ وجدوا أنفسهم تابعين إداريا لمدينة أوسيم وانتخابيا لحى الوراق.. أحيانا ينقلب السحر على الساحر ويكون «تكبير الدماغ» و«الطناش» من الصعوبة بمكان حتى لو كنا نسكن فى جزيرة «طناش» لأن الأمر يتعلق بمستقبلنا وبأولادنا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved