محنة العقل مع التراث الإسلامى

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الجمعة 27 يناير 2017 - 10:35 ص بتوقيت القاهرة

عندما يشاهد الإنسان على شاشات محطات التليفزيون العربية الدينية متحدثين ينشرون الفهم الخرافى والفتاوى المتزمتة للدين الإسلامى ويقحمون الدين بصور مضحكة طفولية فى مواضيع من مثل التاريخ والعلوم، فإنه يدرك مقدار تشويه روح ذلك الدين من جهة ومقدار بلادات فصله كليا عن أحكام العقل ومتطلبات المنطق.

أحد المتحدثين يدعى بأن زيارة قبر أحد أئمة مذهبه تساوى مليونى حجة، نعم مليونى حجة، وآخر يدعى بأن هتلر قد تلى آية قرآنية فى خطبة له، وثالث يؤكد أن كل الاكتشافات العلمية والطبية موجودة فى قرآن وأحاديث وفقه هذا الدين، وما على الإنسان إلا أن يبحث وسيجد.

سيل من السُخف والبلادات والتقول على الله الذى يخدر الإنسان العربى ويسلبه من كل قدرة على ممارسة العقلانية واستعمال مقاييس المنطق والعلم ويدخله فى عوالم الشعوذة والسحر والمعجزات والحكايات الخرافية.

•••

من هنا، وبسبب الازدياد الهائل لمثل تلك المحطات التليفزيونية ولأمثال بعض أولئك المتحدثين بهستيريا وصراخ وحركات بهلوانية، وبسبب انعكاس تلك الثقافة الدينية المتخلفة المتزمتة على مجمل أشكال الثقافة العربية من مثل تحريم البعض للغناء والتصوير والنحت.. إلخ، وبسبب استعمال تلك الثقافة الدينية استعمالا انتهازيا من قبل الحركات الجهادية العنفية لتبرير ممارسات من مثل تفجير الانتحاريين أنفسهم فى مختلف تجمعات الأبرياء فى الأسواق والمساجد والكنائس والمآتم والمدارس... بسبب كل ذلك يضطر الإنسان المرة تلو المرة للعودة إلى الحديث عن الأهمية الوجودية العربية القصوى لتحليل ونقد وتنقيح ساحة الأحاديث الموضوعة المنسوبة زورا وبهتانا وجهلا إلى رسول الإسلام، وأيضا ساحة الفقه المتخلف المتزمت المنتمى لأزمنة تاريخية غابرة، وبالتالى المتعامل مع واقع مختلف بصورة كلية عن واقع العصر الذى نعيش. وهى عملية يجب أن تهدف إلى أمر أساسى: إرجاع مركزية الوحى الإلهى القرآنى ليحكم بصورة كاملة إبداعية متجددة حقل التراث البشرى الإسلامى، قديمة وحديثه. ومن أجل توضيح ما نقول سنأخذ موضوع العقل والعقلانية لنبرز الفرق الهائل بين التعامل القرآنى والتعامل الفقهى إزاء هذا الموضوع الخطير.

فأما القرآن فقد امتلأ بالآيات التى تحض على استعمال أدوات العقل من مثل يتفكرون ويفقهون ويعلمون ويعقلون ويتدبرون، أى أن الوحى اعتبر العقل حاكما أساسيا فى أمور حياة الإنسان الدنيوية، بما فيها فهم رسالة السماء فهما صحيحا وتطبيقها تطبيقا لا يتعارض مع توجيهاتها القيمية والأخلاقية من مثل العدالة والكرامة والأخوة الإنسانية والعفة والرحمة وشتى أشكال الفضيلة.

إلى هنا ولا توجد مشكلة مفتعلة بين الدين والعقل. لكن محنة العقل والعقلانية تبدأ بتدوين ما عرف آنذاك بعلوم السُنة من جهة وعندما يبدأ زج الدين زجا انتهازيا فى أمور السياسة وصراعات الحكم من جهة أخرى.

أما السُنة فكانت إشكاليتها تقع فى التراكم الهائل لما اعتبر جزءا من منطوقها. فالأحاديث النبوية، وهى جزء من السُنة، قد بدأت بعدد الخمسمائة عند مالك بن أنس لتنتهى إلى عشرات الآلاف عند هذا الإمام أو ذاك الفقيه.

•••

ما يهمنا هنا هو العدد الهائل من الأحاديث التى نسبت إلى النبى محمد (صلعم) زورا وبهتانا، بل ونسبت إلى بعض الصحابة كذبا، وذلك من أجل مصالح سياسية، أو تبرير لعادات وسلوكيات قبلية، أو إلباس هذه الشخصية أو تلك لباس القدسية.

لكن السُنة لم تقف عند حدود الأحاديث النبوية تلك، مع كل ما فيها من نقاط تحتاج إلى مراجعة، بل أضيف إليها أيضا أقوال الصحابة والتابعين وإجماع العلماء وآليات الاجتهاد، بل وحتى عمل أهل المدينة عند البعض.

فإذا أضيف ما حاول البعض فعله، كما فعل الشافعى على سبيل المثال، من اعتبار السُنة النبوية وحيا إلهيا، وبالتالى لا يجوز مسها بأية صورة من الصور، أدركنا كيف أن الأقوال والآثار سيطرت على الساحة وادعى مروجوها بعدم الحاجة للرأى، أى استعمال العقل، إلا فى حدود ضيقة إلى أبعد الحدود.

•••

ليس الهدف هنا الدخول فى دهاليز علوم الحديث والفقه المختلف من حولها كثيرا، لكن الهدف هو القول بأن التوسع الهائل فى الأقوال التى نسبت إلى الرسول وإلى أصحابه والتابعين وغيرهم من مسميات، والإصرار على إضفاء القدسية على الكثير من تلك الأقوال، جعل استعمال العقل فى أهم ساحة ثقافية آنذاك، ساحة الدين؛ جعل استعماله محدودا ومشروطا ومكبلا، بحيث ساهم فى تهميش الوهج العقلانى القرآنى من جهة، وفى تهميش علوم الفلسفة القائمة على مناقشات العقل من جهة أخرى، وفى الادعاء بأن الأجوبة على الأسئلة الدينية، عبر العصور، موجودة فى التراث الدينى السابق وفى ما قاله السلف الصالح.

فى هذا الحقل الثقافى المهم، الذى همَّش العقل فيه تاريخيا، ويهمش العقل فيه حاليا بصورة فجة كما هو واضح على شاشات المحطات التليفزيونية الدينية، أصبح موضوع تنقيحه، تحليلا ونقدا وتجاوزا وتجديداَ، من جهة وموضوع العودة إلى إسلام القرآن، الوحى الآمر بالتفكر والتمعن من خلال السمع والبصر والفؤاد من جهة أخرى.. أصبح موضوعا بالغ الأهمية، وبالغ الحاجة لحل إشكالاته، لا من قبل جهود أفراد وإنما من قبل جهود مؤسسات دراسات وبحوث رسمية وأهلية.

إن محنة العقل مع القراءات التاريخية للتراث الإسلامى تمثل اليوم محنة كبرى لا يمكن تجاهلها، بل ولا حتى تأجيلها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved