«يابانى أصلى».. كوميديا سوداء عن الفوضى المصرية!

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: الجمعة 27 يناير 2017 - 10:50 ص بتوقيت القاهرة

من النادر أن نعثر فى كل موسم سينمائى على فيلم كوميدى يستحق صفته، ذلك أن الكوميديا لدى أجيال المضحكين الجدد، تعادل بالضبط «الهزار» و«التريقة»، ولذلك تصنع بصورة متعجلة يغلب عليها الاستسهال والاستعباط، فلا تكاد تجد فارقًا بين بعض الأفلام التى يسمونها كوميدية، وبين جلسات التهريج على المقاهى، وقد «يرتفع» مستواها أحيانا فتبدو أقرب إلى فقرات «الستاند أب كوميدى»، حيث شخصية واحدة تقريبا هى التى تقوم بالعرض، بينما بقية الأدوار والشخصيات لا وجود لها، وحيث كل شىء افتراضى، بما فى ذلك مسألة وجود سيناريو أو مخرج.

ولكننا قد نعثر بالمصادفة على فيلم أو اثنين كل موسم، تلمس فيهما رائحة الجدية فى صناعة كوميديا، فنشعر بفرحة مضاعفة، مع أن المفروض أن ذلك هو الأمر العادى والطبيعى، فى كل الأحوال، فإننا لا يمكن أن نتجاهل فيلمًا مثل «يابانى أصلى»، الذى كتبه لؤى السيد، وأخرجه محمود كريم فى أول أفلامه كمخرج، وقام ببطولته أحمد عيد، ذلك إنه عمل مختلف وجيد، بل لعله أفضل أفلام الموهوب أحمد عيد حتى الآن، كما أن الفيلم يقدم دراما كوميدية متماسكة إلى حد كبير، مع بعض الملاحظات، كما أنه بالتأكيد أبعد ما يكون عن جلسات التهريج، وفواصل «الستاند أب كوميدى».

«يابانى أصلى» ليس أول فيلم يقدم تناقضات الفوضى المصرية من خلال عين خارجية، فقد سبقه فيلم «عسل إسود» الذى قام ببطولته أحمد حلمى، ولكن «يابانى أصلى» أكثر نضجًا وإحكامًا وظرفًا من تجربة حلمى، والمقارنة هنا من خلال طفلين يابانيين لهما أب مصرى يريد أن يعيشا معه فى صفط اللبن؛ أى أن التناقض حاضر منذ اللحظة الأولى، كما أن استدعاء النموذج اليابانى يضعنا أمام مسافة أبعد من النموذج الأمريكى: اليابان ليست مجرد حالة تقدم مذهل، ولكنها منظومة محكمة من القيم المتوارثة، إنها فلسفة حياة متكاملة، إحدى ثمارها التقدم العلمى والتكنولوجى.

وضع النظام اليابانى فى مقابل الفوضى المصرية يزيد من حدة الصراع، واختيار طفلين لم يتكونا بعد كبطلين للتجرية يمنح الفيلم حيوية فائقة؛ لأنهما مثل قطعة الإسفنج التى تمتص كل شيء هنا وهناك، ووجود أب مصرى للطفلين، يمنح التجربة طابعها العاطفى الواضح، وهو بالتأكيد أكثر تأثيرًا من عودة شاب مصرى من أمريكا كما فى «عسل إسود»، فقد بدا الشاب أقرب إلى سائح متأمل، وليس موضوعا لتجربة، قد تكلفه حياته بأكملها، ولذلك ظهرت مواقف كثيرة فى فيلم أحمد حلمى آلية أو مصنوعة.

لؤى السيد نجح إلى حد كبير فى أن يصنع هذه الحالة المركبة: أب يريد أن يعيش معه أولاده الذين هربت بهم أمهم اليابانية، وهو يريد أن ينجح لأول مرة فى حياته؛ لأنه مثل كثيرين لم يحقق شيئا، ولذلك يقبل تسوية غريبة، بتدخل السفارة اليابانية، هى أن يأتى ولداه عبدالرحمن ومصطفى للعيش معه لمدة ستة أشهر، وفى حال تعرض ذكاء الطفلين أو تعليمهما أو صحتهما للخطر، فإن من حق الأم اليابانية استردادهما فورا.

رغم أنك تعرف منذ البداية أن المباراة محسومة لصالح الأم، وأن الحارة المصرية فى صفط اللبن(هى مصغر الفوضى المصرية كلها وليس مقصودًا منها منطقة بعينها) لا تقارن باليابان، فإن الفيلم يدهشنا بمواقفه الظريفة، والمنسوجة بذكاء، فبعد استعراض ما يحدث فى الحارة من صخب وعشوائية ومعاملة مهينة للأطفال، وبعد استعراض فوضى شقة الأب محرم (أحمد عيد)، الذى تعيش معه شقيقته، وزوجها الذى أغلق ورشته، وولداهما، ننطلق إلى فوضى التعليم والمدارس الحكومية، ومشاكل الصحة والمستشفيات.

الكوميديا السوداء يترجمها بالضبط المثل القائل: «شر البلية ما يضحك»، ورغم أن الضحك فى كثير من المشاهد صاخب، فإنه أيضا مؤلم، ذلك أن انعكاس فوضانا على طفلين من اليابان، يجسم المأساة التى نعيشها، كما يزيد من تعاطفنا مع الأب الذى يتصرف طوال الوقت بعاطفته، ولعله يعلم فى داخله أن معركته صعبة، وأنه أمام اختيارين أحلاهما مر: فإما أن يفقد ولديه بالعودة إلى اليابان، وإما أن يفقد ولديه بالبقاء فى وسط ظروفنا الفوضوية، التى تكيفنا معها، حتى لم نعد نشعر بأنها فوضوية.

يتجنب الفيلم أن يدور حول نفسه بدفع الأحداث إلى الأمام، فتظهر لبنى (ندا موسى) المدرّسة التى تساند الطفلين، والتى تحاول أن ترصد فى رسالتها العلمية أثر تغير بيئتهما على شخصيتهما، وربما كانت بوادر قصة الحب بين لبنى ومحرم فى حاجة أكثر للدعم والتفصيل، كما تتحرك الأحداث للأمام مع محاولات محرم لتحسين دخلة المادى، مع ملاحظة غياب ملامح عمله الحالى التى كان يمكن أن تثرى الفيلم، ولكن الصراع لم يغب طوال الوقت، حيث يظل الطفلان مراقبين تنفيذا للالتزام بالعقد الذى وقعه والدهما لاستردادهما، كما تحضر الأم شخصيا لتزيد من حدة الصراع.

يلعب الفيلم على الخطين المتداخلين حتى النهاية: عاطفيا يتعلق الطفلان بالأب، ولعلهما أعجبا بحالة «السداح مداح» التى نعيشها كما يقول لهما محرم، ولكن عقليا يبدو أنه لا مفر من الإقرار بأنه فى صالح الولدين أن يعيشا فى اليابان وليس فى مصر، فتغيّر الحارة من أجل الولدين لا يكفى، فلابد أن يتغير البلد بأكمله، كاد الفيلم أن يقدم نهاية عظيمة حقًا بعودة الولدين لليابان، فهذه هى النهاية المنطقية، ولكن صناع الفيلم خافا من إغضاب المشاهد، فانحازوا فى النهاية للعاطفة، ولارتباط الطفلين بالأب المحب والغلبان.

لو كتب هذا الفيلم وحيد حامد مثلا لما تردد فى أن يصدم المتفرج فى النهاية، هذه الروح الانتقادية اللاذعة فى الفيلم كانت فى حاجة إلى مواجهة الجمهور بماء منهمر، مثل ذلك الذى ينهال على رءوس المارة فى الحارة، صحيح أن محرم قال كلاما عظيما عن مجتمع يجب أن يتغير من أجل نفسه، لا من أجل الضيوف، وصحيح أنه قال كلامًا أعظم عن عدم كفاية تغيير حارة صغيرة، وصحيح أنه فشل فى الامتحان؛ لأنه من المستحيل أن تنجح فى ظل ظروف عشوائية، إلا أن الخط لم يكتمل لآخره، مع التسليم بأن عودة ولدين لأبيهما مفهوم وأقوى بكثير من بقاء شاب فى بلده، لمجرد أن «فيها حاجة حلوة»، أو لأن أهلها يصنعون البسبوسة وكعك العيد!

المفرح حقًا أن أحمد عيد يقدم فى «يابانى أصلى» أفضل أدواره، يضحكنا من الأعماق، ويجعلنا نشعر بالشجن فى مواقفه الإنسانية مع ولديه، والأكثر جمالا أن ندا موسى ممثلة لديها حضور واضح، كما أن هشام اسماعيل يقدم دورًا مميزًا كمحامٍ وكسائق للتاكسى، ولدينا طفلان يابانيان رائعان، كما أننا أمام مخرج واعد جدًا اسمه محمود كريم، يعرف كيف يقدم المشهد الكوميدى، وكيف يوظف عناصر المونتاج والموسيقى، بشكل جيد ومؤثر.

«يابانى أصلي» فيلم يثبت أن الكوميديا الجيدة ما زالت ممكنة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved