فساد الأمكنة

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 27 يناير 2018 - 10:30 م بتوقيت القاهرة

أبراج تناطح السحاب، سواء فنادق أو مراكز تجارية ضخمة، تتخللها بعض المبانى السكنية، وإلى جوارها مطاعم ومحلات صغيرة يشوبها نوع من العشوائية والبدائية المفهومة فى السياق، فتايلاند البلد السياحى منذ عقود تتنازعه الهويات أو بالأحرى طبع ثقافته لتتناسب مع تطلعات الزائرين.

على مرمى البصر، معبدبوذى تنطلق منه رائحة بخور وتباع على عتبته الورود. شيء ما مصطنع يفوح فى الجو وتمتزج رائحته بعطن الرطوبة وتخمر القمامة فى أكياس المهملات وأبخرة أطعمة الشارع بتوابلها القوية وأدخنة السيارات، وفى بعض المدن، بنسيم البحر الذى غالبا ما تتراص على شاطئه فتيات تجارة الجنس بأحجامهن وأعمارهن المختلفة. السياحة التى جعلت العاصمة بانكوك، ثانى قبلة عالمية للسائحين بعد لندن مدينة الضباب، لتتفوق بذلك على باريس، باجتذابها 32.2 مليون زائر سنة 2016، أسفرت عن عمليات ثقافية مختلفة تتراوح ما بين تفاعل واستيعاب وتذويب وتطبيع وتناقض، ما أدى إلى شعور بفقدان الروح الأصلية لتايلاند التى يضرب بها المثل ضمن البلدان التى نجحت فى استخدام مقوماتها السياحية لتنمية الاقتصاد القومى وتحقيق فائضا فى ميزان المدفوعات وزيادة احتياطى النقد الأجنبى.

***

جموع السائحين حول معبدبوذا المتكئ «الوات بو« أو فى الأسواق العائمة الشهيرة التى تتكدس فيها الزوارق والقوارب حاملة البائعين والزوار لعرض بضاعة مكررة... كلها تجليات لآثار السياحة الجماعية التى غيرت طبيعة البلد، بما يشوبها من مظاهر عولمة وأسباب سياسية وتداعيات اجتماعية، فالسياحة ازدهرت فى تايلاند مع حرب فيتنام ومجيء الجنود الأمريكان إليها، فى نهاية الخمسينات وبداية الستينات، للترفيه عن أنفسهم واللهو مع «السيدات الباحثات عن طعام« وهى الترجمة الحرفية لتسمية العاملات بتجارة الجنس فى اللغة المحلية الدارجة. وبالتالى تزايد عددهن بشكل ملحوظ خلال السبعينات والثمانينات حتى قدر بحوالى 2 مليون. خلال هذه الفترة نفسها تم اعتماد مبدأ اللامركزية فى التنمية السياحية، وتحولت فجأة العديد من الجزر النائية وقرى الصيادين الصغيرة مثل باتايا على سبيل المثال لا الحصر إلى مراكز جذب سياحية، ما استتبعه دون شك تغيرات اجتماعية سريعة مسخت الثقافة المحلية، رغم اعتزاز التايلانديين بحضارتهم.

***

خلال الستينات والسبعينات أيضا كانت بداية اهتمام الأنثروبولوجيا والاجتماع بدراسة تأثيرات السياحة على الثقافات المحلية فى المناطق المختلفة من المكسيك إلى جنوب شرق آسيا مرورا بدول المغرب العربى وسواها. لأن اختلاط التصورات والتوقعات والمفاهيم يؤدى بالضرورة على مدار الوقت إلى شيء مختلف. البعض يحسن هضمه وتوجيهه فى المسار المطلوب والبعض يصعب عليه المقاومة، فى حين لا يتداركه ولا يقف عنده آخرون، فينسج الخيال الغربى أو غيره صورا حول هذه الجزيرة البعيدة أو تلك أشبه بلوحات ماتيس وجوجان خلال رحلاتهما، أو بأفلام مثل «مملكة سيام« و«ايمانويل« و«الملك وأنا«. ثم تتلون الصورة وتتبدل وفق ما اختاره أهل البلد، إذ ينجح البعض مثل سكان جزيرة بالى الإندونيسية فى الحفاظ إلى حد ما على الثقافات المحلية المختلفة وخصوصيتها من مكان إلى آخر أو تتلخص الصورة مثلما فى تايلاند فى مشهد فيل داخل الأحراش أو رجل عجوز من بلاد الشمال يصطحب فتاة عشرينية للعشاء وخلافه أو ناطحات سحاب تلامس السماء لتذكرنا دوما أنها بنيت على أنقاض الفقر والعوز.

كل هذه الظواهر الاقتصادية والاجتماعية والثقافية يجب التعمق فيها ودراستها بوصفنا بلد سياحى يستطيع أن يحقق ما هو أكثر وأهم وبكثير، لكن مع مراعاة الخصوصية الثقافية وما قد يطرأ عليها، فيظل هناك توازن وفرادة، ولا تفقد الأماكن روحها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved