تحديات إدارة علاقة الكنيسة بالدولة فى عهد البابا تواضروس الثانى

جورج فهمي
جورج فهمي

آخر تحديث: الأحد 27 يناير 2019 - 11:15 م بتوقيت القاهرة

ثمة اختلافات عدة فى إدارة البابا تواضروس الثانى للكنيسة القبطية مقارنة بأسلوب سلفه البابا شنودة الثالث. أحد أهم تلك الاختلافات وأكثرها تأثيرا ربما على حياة الأقباط اليومية، هو أسلوب إدارة الكنيسة القبطية لعلاقاتها بمؤسسات الدولة المصرية. فبينما اختار البابا شنودة أن يدير علاقته بمؤسسات الدولة على أساس الندية، باعتباره ممثلا عن الأقباط ومدافعا عن مصالحهم فى مواجهة هذه المؤسسات، يسلك البابا تواضروس نهجا مغايرا يرى فيه أن الحفاظ على مؤسسات الدولة له الأولوية، خاصة فى المرحلة الحرجة التى تمر فيها منطقة الشرق الأوسط من غياب للدولة وحروب أهلية فى دول الجوار، وهو ما عبر عنه بمقولته الشهيرة «وطن بلا كنائس، أفضل من كنائس بلا وطن». فعلى الرغم من الحوادث الطائفية التى تعرض لها الأقباط خلال السنوات الأخيرة، رفض البابا تواضروس أن يلجأ إلى أدوات الضغط على النظام السياسى، التى كان يلجأ إليها البابا شنودة فى السابق، مُجددا فى كل مرة ثقته فى مؤسسات الدولة وقدرتها على حل مشكلات الأقباط.
إلا أن رؤية تواضروس لعلاقة الكنيسة بالدولة تواجه تحديَين رئيسَين:
التحدى الأول هو غياب أى قنوات بديلة للكنيسة تسمح للأقباط بإيصال مطالبهم لمؤسسات الدولة، سواء من خلال الأحزاب السياسية أو المجتمع المدنى. وحالة الفراغ تلك ليست جديدة، بل كانت إحدى سمات نظام 23 يوليو 1952، الذى أفضت إجراءاته السياسية والاقتصادية إلى إضعاف النخب المدنية القبطية، لتظل الكنيسة هى الطرف الوحيد القادر على تمثيل مصالح الأقباط لدى مؤسسات الدولة.
أما التحدى الثانى فهو المناخ الطائفى الذى لا يزال حاكما لعلاقة المسيحيين بالمسلمين فى بعض المناطق، كما هو الحال فى محافظة المنيا على سبيل المثال.
يتضافر هذان العاملان معا ليضعا الكنيسة فى موقع المدافع عن حقوق الأقباط فى مواجهة مؤسسات الدولة. ففى حال حدوث أى مشكلة طائفية لا يجد الأقباط عادة سوى رجال الدين للدفاع عن مطالبهم، فى ظل غياب أحزاب مدنية فاعلة على الأرض، أو حتى منظمات مجتمع مدنى قادرة على الضغط من أجل حل مشكلاتهم.
***
فبينما أسس نظام عبدالناصر لهذا الإطار الذى تتولى فيه الكنيسة منفردة الحديث باسم الأقباط، تميزت علاقة الدولة بالكنيسة خلال الحقبة الناصرية بالهدوء والتعاون، فى ظل مناخ مجتمعى غاب عنه التوتر الطائفى. فلم تجد الكنيسة القبطية نفسها فى تلك الفترة مضطرة إلى لعب أى دور سياسى، ولم يطالبها الأقباط بذلك، بل اكتفى البابا كيرلس السادس بدوره الدينى مبتعدا عن الحديث فى السياسة.
بيد أن نمط العلاقة الهادئ هذا تغير مع صعود أنور السادات خلفا لعبدالناصر فى العام 1970. كان التحدى الرئيس للسادات مواجهة التيارات اليسارية والناصرية المُعارِضة لسياساته اليمينية، فاختار دعم الحركات والتنظيمات الإسلامية بهدف مواجهة أفكار ناصر وتنظيماته. إلا أن تلك السياسة كان لها آثار جانبية عدة، من أهمها ارتفاع حدة ووتيرة الحوادث الطائفية بين تلك القوى الدينية المُحافِظة الصاعدة والأقباط. وقد جاء هذا التحول فى سياسات النظام السياسى مواكِبا لتحول آخر داخل الكنيسة القبطية، حيث صعد البابا شنودة الثالث إلى كرسى مار مرقس الرسولى بعد وفاة البابا كيرلس فى العام 1971. رفض البابا شنودة سياسات السادات الهادفة إلى أسلمة الدولة والمجتمع، وقام فى أكثر من مناسبة بمعارضتها علنا. فعرفت العلاقة بين أنور السادات والبابا شنودة الثالث أزمات عدة، وصلت إلى حد قيام السادات، فى نهاية المطاف، بتحديد إقامة شنودة الثالث فى أحد أديرة منطقة وادى النطرون، ضمن إجراءات سبتمبر 1981 التى طالت أغلب التيارات السياسية، قبل أن تغتال السادات إحدى الفصائل الإسلامية بعد ذلك بأسابيع قليلة فقط. استمر احتجاز البابا شنودة فى عهد حسنى مبارك حتى أفرج الأخير عنه فى يناير 1985. ومع تواصل الحوادث الطائفية خلال عهد مبارك، استمر البابا شنودة فى أسلوب إدارة علاقته بالدولة، فتعامل مع نظام مبارك بقدر كبير من الندية، مستخدما الضغط والتفاوض للدفاع عن حقوق المسيحيين، وإن تجنب الطرفان الصدام كما جرى بين السادات وشنودة فى العام 1981.
عقب صعود البابا تواضروس إلى الكرسى البابوى بعد وفاة البابا شنودة فى العام 2012، اختار خطابا مختلفا عن سلفه حيث أكد على ضرورة ألا تتدخل الكنيسة فى السياسة، مشددا على دورها الروحى والمجتمعى، فيما بدا أنه عودة إلى أسلوب إدارة البابا كيرلس لعلاقته بنظام جمال عبدالناصر. النظام السياسى الجديد يبدو من جانبه أيضا حريصا على عدم تكرار تجربة شنودة ــ مبارك فى إدارة العلاقة بين الكنيسة والدولة. وقد بدا ذلك جليا فى مشهد افتتاح الكاتدرائية الجديدة، كما فى زيارات الرئيس الدورية للكنيسة للتهنئة بالأعياد، وهو الأمر الذى لم يقم به مبارك قط. بيد أن توجهات الدولة والكنيسة لا تكفى وحدها لتغيير شكل العلاقة بين الطرفين، فى ظل واقع سياسى تغيب فيه أى قنوات سياسية أو مجتمعية بديلة تتيح للأقباط الدفاع عن مطالبهم، واستمرار حوادث العنف الطائفى التى تستهدف الأقباط وممتلكاتهم. وحتى وإن رأى البعض فى علاقة البابا بعبدالفتاح السيسى ملامح شبه واضحة من علاقة البابا كيرلس بجمال عبدالناصر، فإن المناخ الطائفى الذى ألقيت بذوره فى عهد السادات، واستمر خلال حكم مبارك، لا يزال عصيا على التغيير، ما يفرض ضغوطا متزايدة على قيادة الكنيسة لتدافع عن مصالح الأقباط فى مواجهة الدولة، حتى ولو لم ترغب القيادة نفسها فى تأدية هذا الدور.
باحث بمركز مسارات الشرق الأوسط بالجامعة الأوروبية بفلورنسا

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved