هل يجب علينا امتلاك المستقبل؟!

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الجمعة 27 يناير 2023 - 7:50 م بتوقيت القاهرة

فى نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن الماضى اخترق أذنى تعبير «صالون ثقافى» ــ وكنت فى ذلك الوقت طفلًا صغيرًا ــ ينطق به خالى أستاذ الطبيعة والكيمياء بمدرسة ملوى الثانوية، وهكذا فتحت عينى فى نهايات الابتدائى ودخول الإعدادى على وجود عدد من الصالونات منذ الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضى مثل صالون العقاد، صالون مى زيادة.. وغيرهما الكثير.
كتب أنيس منصور كتابًا عن صالون العقاد: «فى صالون العقاد.. كانت لنا أيام»، وعندما نتحدث عن ثقافة الصالونات والتى كانت منتشرة فى ذلك الزمان نحتاج أن نتحدث عن فن استشراف المستقبل، واستشراف المستقبل أمر لا بد من أن يشغل الأجيال المعاصرة، وذلك لكى يتخيلوا كيف يضعون الأسس العلمية والفكرية لبناء مستقبلهم ومستقبل الأجيال التى تأتى من بعدهم، مع الوضع فى الاعتبار كل الاختلافات فى الفكر والمنهج واستيعاب التعدد الدينى والثقافى والعلمى.. إلخ، ولقد قدم مؤخرًا صالون دار الشروق ــ بعد طول انتظار ــ كتاب طه حسين عن التعليم فى مصر، وهكذا كانت هناك مناقشات مستفيضة وخلاقة بهذا الشأن، وما أريد قوله هنا هو أهمية اللقاء بطريقة مقننة وثابتة، وأقصد هنا العودة إلى موسم الصالونات، مثلًا مرة فى الشهر لمدة ٦ أشهر فى العام، وأن يوضع برنامج وجدول لأهم الموضوعات التى يمكن مناقشتها سواء كانت علمية أو أدبية أو ثقافية أو فلسفية أو سياسية.. إلخ. وهذا سيكون بمثابة إلقاء حجر فى مياه الثقافة الراكدة، لكى يحرك المياه فيها فَتُخرج من أعماقها جُددًا وعتقاء، أى كل فكر جديد وقديم، وتقديمه بما يعالج القضايا المطروحة فى مجتمعنا هذه الأيام، سواء كانت سياسية، أو اجتماعية، أو اقتصادية أو علمية.. إلخ.
• • •
أهم ما نحتاجه هذه الأيام هو أن نتحدث عن «استشراف المستقبل كما تبتكره الحداثة»، وذلك بوصفه أداة من جملة الأدوات التى تتوسل بها المجتمعات الحديثة لبناء مستقبلها، والاستشراف هنا ليس بمعنى التوقع والتنبؤ فقط، وليس من شأنه أن يتكهن بالمستقبل كما لو كان شيئا جاهزا، ولكن مهمته أن يعيننا على بنائه فهو يدعونا حينئذ إلى اعتبار المستقبل أمرًا علينا تأسيسه وتشييده، وهذا يعنى أن الاستشراف هو استدراك على الفلسفات التقليدية التى تعتبر الإنسان كائنًا محكومًا عليه سَلفًا بأن يكون متفرجًا على مستقبل مُسلط عليه، ولا قدرة لديه على توجيهه أو التحكم فيه، وهو فى الوقت نفسه انتصار للفلسفات الحديثة التى تعتبر أن الفرد مسئول وحر فى أن يتوسل بفكره الخلاق لابتكار الآتى على غير مثال سابق، والمستقبل ضمن هذه الفلسفات الحديثة غير محدد، بل إنه مفتوح على احتمالات كثيرة، فعزيمة الإنسان إزاء الماضى لا جدوى من ورائها وحريته وسلطته منعدمة.. فالماضى إنما هو مجال الأحداث التى وقعت ولا سلطان له عليها، وهو فى الوقت نفسه مجال الأحداث الآنية المعروفة، أما المستقبل فهو بالنسبة له مجال للغزو والحرية والإرادة والخيال فهل نفعل؟!
فى هذا السياق يذكر الكاتب الفرنسى، هوغ دى جوفنال، فى كتابه «دعوة إلى الاستشراف» أن الإنسان الغربى الحديث قد نشأ على «عبادة العلم» لأنه يُقدم الثوابت والقوانين التى لا تتغير أكثر من عبادة الخطر والمجازفة والحرية. والمستقبل بوضعه أفقًا ملتبسًا غير محدد يمثل بالنسبة إلى الإنسان فضاءً واسعًا للحرية. لكن ما هى المنهجية التى ينبغى أن يلتزم بها العامل فى حقل الاستشراف؟!
يشير دى جوفنال إلى أن «المرصد» هو أساس كل مستقبل استشرافى، ويتمثل هذا المرصد فى استكشاف العلامة الصغيرة، بحجمها الراهن، والكبيرة بنتائجها المفترضة التى تُشير إلى تَحول تقنى أو اقتصادى أو اجتماعى، غير أن الكاتب سُرعان ما ينبهنا إلى أن نظرتنا إلى الواقع هى، فى أكثر الأحيان، نظرة ضالة مُضَّللة، فقد تعودنا على أن نرى من الأشياء «ما يُريحنا» ولا نرى منها «ما يزعجنا»، ثم أن هناك عوامل عديدة توجه رؤيتنا إلى الواقع منها إرثنا الثقافى، وذلك من خلال النظريات التى آمنا بها، والأيدولوجيات التى اعتنقناها.. وهذه العوامل غالبًا ما تتغاضى عن الواقع، بل ربما تتحول إلى خطة من خطط صرف الأنظار عنه.
كما أن الباحث «برجى جاستون»، والذى أمعن فى نقد المؤسسة التربوية بوصفها مؤسسة منفصلة عن الحياة تحجبها بدلا من أن تكشفها، أورد نصه المعروف: «أن الأستاذ الذى هو فى سن الخمسين ينقل لتلاميذه معارف كى يستخدموها بعد ١٠ أو ١٥ سنة وقد سبق له هو أن تلقاها قبل ذلك بـ ٢٥ أو ٣٠ سنة، معنى ذلك أن فترة إبلاغ المعرفة تمتد على مدى أربعين عاما، أى أنها أطول مرتين من تلك التى تقاس بواسطتها التحولات الكبرى التى ينجزها الإنسان».
• • •
إن من يعمل فى مجال الاستشراف هو الذى ينتبه إلى هذه الحُجُب التى تفصله عن الواقع، ويسعى هو إلى حنكتها مؤمنًا أن المستقبل هو مجال للسلطة والإرادة، لأن «المستشرف» هو الذى يعى الأوضاع، وهى بصدد النشوء والتخلق، أى فى حالة لا تزال معها قابلة للتعديل وقبل أن تتخذ شكلًا نهائيًا، فهو هنا يقوم بوظيفتين: وظيفة الاستباق ووظيفة الاستشراف، أى استباق حدوث التغير، واستشراف تغيير مرجو بنيّة أن يحدث. والاستشراف هنا مجال للإرادة، لأن الرصد الاستشرافى لا معنى له إلا لدى من هو مسكون بمشروع.
وكما تقول الحكمة «لا وجود لريح مواتية لمن لا يدرى إلى أين هو ذاهب»، وحتى تكون الريح مواتية، على المستشرف / الرُبان أن يضع خطته أو برنامجه أو استراتيجيته للوصول إلى مرفأ الأمان. يُعرف دى جوفنال المشروع قائلًا: إنه تعبير عن رغبة يتطلب تحقيقها حتمًا أن تُرسم على مدى زمنى محدد.. وأن تُعبأ لها الإمكانات، وهنا تتدخل المعادلة الدقيقة بين الحُلم والعقل: «الحُلم يولد الرؤى التى نشكلها عن عالم أفضل والتى تمر عبر غربال العقل فتتحول إلى حوافز فعلية وقابلة للإنجاز».
فى قسم ثان من الكتاب، يستعرض دى جوفنال مراحل التمشى الاستشرافى الخمس: (تحديد المشكل، واختيار الأفق، جمع المعطيات، بناء صور المستقبل الممكنة، وأخيرًا الخيارات الاستراتيجية)، وهو هنا يُحللها تحليلًا متأنيًا مستندًا على العديد من الوقائع التاريخية، ثم يختتم كتابه بالقول: «لا يجب أن نتخلى عن فكرة أن لا سلطان لنا على المستقبل وأنه رهين عوامل لا نملك بإزائها أن نفعل شيئًا.. علينا أن نعيد تملك المستقبل بصورة فردية وجماعية».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved