ثورات فى كل القارات

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 27 فبراير 2014 - 2:40 م بتوقيت القاهرة

تمر على علماء السياسة ومراقبيها وهواتها أيام مثيرة. ففى القارات الأربع «ثورات» جماهيرية ناشبة فى دول عديدة. قد تختلف أسبابها المباشرة ونقاط تفجرها، ولكن يجمع بينها بيئة دولية مشحونة بتداعيات أزمة اقتصادية متشبثة بالبقاء وجاهزة للتشعب. يجمع بينها أيضا أنها تحدث فى مرحلة تاريخية مبهمة، بدأت انتقالية بين نظام دولى وآخر واستمرت هكذا.

إلى جانب ثورات الربيع العربى التى دخلت عامها الرابع، وما زالت تضيف إلى مخزون تجارب الثورات وعلومها وفنونها ومآسيها، وما زالت، فى ظنى، قادرة على أن تفاجئ العالم الخارجى وتفاجئنا بتطورات غير متوقعة، إلى جانب هذه الثورات انشغل العالم بثلاث «ثورات» أخرى، واحدة فى أوروبا والثانية فى آسيا والثالثة فى أمريكا اللاتينية. قد لا تستحق أى منها صفة الثورة بالمعنى المتعارف عليه للكلمة، إلا أنها تقع بالتأكيد ضمن قائمة طويلة من أنواع النشاط «الثورى»، أى النشاط الداعى إلى تغيير الوضع القائم باستخدام قوة «الميدان». ثورتان من الثلاث نشبتا فى نوفمبر الماضى والثالثة انطلقت قبل أسابيع قليلة، وما زالت الثورات الثلاث حتى وقت كتابة هذه السطور مشتعلة بدرجات متفاوتة. ثلاثتها شغلت العالم وثلاثتها مع تطورات شبيهة فى أفريقيا اخذت من وقتى جانبا معتبرا فى محاولة للبحث عن العناصر المشتركة فى إشعالها واستمرارها. كانت تجربة مفيدة ذهنيا واستحقت ما بذل فيها من جهد، وفيما يلى بعض النتائج أعرضها بالإيجاز الممكن.

أولا: فى الحالات الثلاث، أوكرانيا وتايلاند وفنزويلا، خرجت مظاهرات الاحتجاج، والتمرد ضد حكومات شرعية منتخبة ديمقراطيا وكان شاهدا على نزاهتها مراقبون دوليون وجرت فى أجواء حرة. هنا يجدر الانتباه إلى أنه فى حالتين على الأقل، وهما أوكرانيا وفنزويلا، يقع التمرد على تجربة ديمقراطية وضعت أسسها ثورة إصلاح كالثورة البرتقالية فى أوكرانيا والثورة البوليفارية فى فنزويلا.

ثانيا: لم ترصد جهة خارجية، أو تشكو جهة داخلية من، اشتراك الجيش أو أى فرع من القوات المسلحة فى عمليات التصدى للمتظاهرين أو حماية ممتلكات الحكومة والمرافق العامة. لم يتدخل الجيش ضد المتظاهرين فى تايلاند أو فنزويلا وهما المعروفتان بتاريخ طويل من تدخل الجيش فى السياسة. ففى تايلاند تدخل الجيش منذ عام 1932حوالى اثنتى عشرة مرة فى شكل انقلاب عسكرى كان آخرها فى عام 2006. ولم يتدخل فى اوكرانيا.

ثالثا: لفت نظرى أنه فى الحالات الثلاث صبت الجماهير غضبها على المبانى الحكومية تحديدا دون غيرها. ففى تايلاند تجمعت الحشود حول مقار الحكومة واحتل الثوار مكاتب الوزارات ومنعوا المسئولين الحكوميين من مباشرة عملهم لشهور متعددة. وفى أوكرانيا، وبخاصة فى العاصمة كييف، كان هدف الثوار مبانى البرلمان ومبانى الحكم والميدان الرئيسى فى العاصمة، ميدان الاستقلال. هكذا كان الحال إلى حد ما فى مظاهرات مدينة كاركاس بفنزويلا، وفى كل الحالات كانت مبانى وزارة الداخلية هدفا أساسيا للمتظاهرين وكان عزل وزير الداخلية مطلبهم المبكر. ألفت الانتباه إلى أن « وقف» أعمال الدولة كاد يصبح فى حكم الظاهرة فى أنحاء شتى من العالم، حتى إن الكونجرس الأمريكى صار يستخدمه كإجراء يعبر به عن سخط المعارضة.

رابعا: كان المتظاهرون فى أغلب الأحوال من أبناء الطبقة الوسطى، فهى الطبقة التى تسعى فى أوكرانيا إلى دفع الحكومة لتوقيع اتفاق مع الاتحاد الأوروبى، على أمل أن تؤدى العلاقة مع بروكسل إلى زيادة فرص الهجرة وإنعاش الاقتصاد فى البلاد. وفى تايلاند اقتصرت «الثورة» على مدينة بانجكوك ولم يشترك الريف فيها، باعتبار أن الثورة تستهدف العائلة الحاكمة، بعد أن حاولت السيدة ينجلاك رئيسة الوزراء إصدار قانون عفو عام يستطيع بمقتضاه شقيقها تاكسين، رئيس الوزراء الأسبق، العودة من منفاه فى دبى، الأمر الذى ترفضه الطبقة الوسطى التى عانت الأمرين من فساد نظامه واعتماده على أساليب «شعبوية» ليكسب بها عواطف الفلاحين، هؤلاء الفلاحون هم انفسهم الذين ارتدوا القمصان الحمر قبل عامين واحتلوا شوارع بانجكوك مطالبين بإجراء انتخابات حرة جاءت بشقيقة تاكسين إلى الحكم.

أما فى فنزويلا، فقد نشب التمرد الحالى ضد حكومة مادورو خليفة هوجو شافيز فى مدينة سان كريستوبال، وهى مدينة ذات طابع خاص إذ تقع على حدود فنزويلا مع كولومبيا حيث للاضطرابات والحرب الأهلية والنفوذ الأمريكى تاريخ طويل، كما أنها، أى المدينة، تعتبر من أهم المواقع الثقافية ومعقلا من معاقل الحركة الطلابية ومركزا من مراكز الطبقة الوسطى. كان الدافع المباشر للتمرد حادث اغتصاب فى إحدى الجامعات ولم تتصرف إزاءه قوى الأمن التصرف المناسب.

خامسا: فى الحالات الثلاث لعبت «فلول» العهود السابقة دورا هاما فى إشعال الاضطرابات. استنفرت قوى المال ورجال الأعمال لتمويل المظاهرات واستخدمت صلاتها بالخارج لإثارة الرأى العام العالمى لصالح المتظاهرين. فى تايلاند مثلا، مازال رجال الأعمال المنافسين لتاكسين رئيس الوزراء الأسبق، يدعمون جهود الطبقة الوسطى ضد حكومة شقيقته، ويتحالفون مع مؤسسة القضاء والبيروقراطية لشل عمل الحكومة. وفى فنزويلا، كان واضحا الدور الذى قام به فى الاضطرابات الحالية أنصار السنيور إنريكى كابيللى الذى رشح نفسه ضد شافيز فى عام 2012 ممثلا لطبقة الأغنياء ورجال الأعمال والقوى المحافظة.

أما فى كييف عاصمة أوكرانيا، فقد بدت الأمور أشد تعقيدا. إذ إن قوى «الفلول»، إن صح التعبير، أى القوى التى كانت تحكم قبل ثورة البرتقال كانت هى نفسها التى تهيمن على حكومة كييف عندما نشب التمرد الراهن. هى القوى التى تراهن على علاقة أوكرانيا بروسيا وتتردد فى الانضمام لحلف الأطلسى والاتحاد الأوروبى، وتعتمد على أقاليم الشرق الأوكرانى المعتمد بدوره اعتمادا كبيرا على روسيا فى الطاقة والتجارة وسد العجز فى الميزانية، وهو الإقليم الذى يتكلم سكانه بالروسية ويعتنقون الأرثوذكسية. لذلك لم يكن غريبا ان تتعامل هذه القوى المعادية لثورة البرتقال مع المتمردين الجدد على أنهم «إرهابيون وفاشيون ويستخدمون الأسلحة النارية»، وأن تلجأ إلى أساليب غير حكيمة لقمع المعارضة مثل إصدار قانون لمنع التظاهر، وهو ما أدى إلى زيادة كبرى فى أعداد المتظاهرين وفى قوى الاحتجاج، كما انها استخدمت درجات قصوى من العنف لفض الاعتصامات وإخلاء الميادين، فتسببت فى لفت أنظار الرأى العام العالمى ودفعه إلى التعاطف مع الثوار.

سادسا: فى حالتين من الحالات الثلاث تدخلت شخصيات وجماعات تدعو الطرفين المتصارعين إلى القبول بفكرة إقامة «حكومات غير منتخبة» مثل حكومات جبهة وطنية أو تحالف قومى أو مجلس حكماء تدير شئون الدولة لفترة انتقالية. حجة هؤلاء أن البلد غير جاهز للديمقراطية، وأنه من غير المستحب زيادة الانقسامات والخلافات نتيجة الحملات الانتخابية. مرة أخرى تتكرر الدعوة إلى «تأجيل» الديمقراطية لصالح الوحدة الوطنية، مرة أخرى يجرى تفضيل كبار السن وتجاهل الشباب. بمعنى آخر يجرى تجاهل حقيقة أن ثورات نشبت فى تلك البلدان، وإنكار أن «الحالة الثورية» مازالت قائمة.

سابعا: فى حالتين على الأقل، اتجهت أصابع الاتهام نحو واشنطن تتهمها بالتدخل لإثارة المظاهرات. ففى كل من فنزويلا وأوكرانيا أعلنت الحكومتان أنهما يعتبران الولايات المتحدة مسئولة مسئولية مباشرة عن إثارة الفوضى فى البلاد حين قامت بتمويل الإعداد للمظاهرات وتدريبها الشبان الذين تولوا قيادتها. وفى كلا البلدين نشرت وثائق ويكيليس التى تكشف عن أموال أمريكية كانت قد خصصت لتدريب قادة التمرد. وفى الحالات الثلاث تدخلت الولايات المتحدة بدرجات متفاوتة لدعوة «طرفى» الصراع إلى «الحوار الهادى وضبط النفس»، وهى الدعوة التى أكدت للأطراف الحاكمة فى الدول الثلاث انحياز أمريكا للمتظاهرين حين ساوت بين الحكومات والمتظاهرين، متجاهلة «أعمال التخريب والإرهاب والفوضى» التى يقوم بها المتطرفون من المتظاهرين.

•••

تتأكد يوما بعد يوم العلاقة الوطيدة بين موقع بلد «الثورة» وطبيعة الدور الخارجى. لا تشعر وأنت تراقب تطور الأحوال فى تايلاند أن للعنصر الأجنبى أهمية كبرى، إذ لا يزال السباق الأمريكى الصينى على مناطق النفوذ فى آسيا بعيدا عن الصدامات والأزمات المباشرة، فضلا عن خصوصية تتمتع بها معظم دول جنوب شرقى آسيا وهى عدم وجود ايديولوجيات قومية أو اجتماعية أو سياسية عابرة للحدود، لذلك يمكن أن تبقى الثورة فى دولة محصورة داخل حدودها.

يختلف واقع تايلاند عن واقع فنزويلا، حيث توجد الأخيرة فى إقليم تنتقل فيه الثورات عبر الحدود بسهولة انتقال الأفكار والمخدرات والأسلحة. من ناحية أخرى، يختلفان فى أنه بينما تهيمن دولة عظمى منفردة على معظم أنحاء أمريكا الجنوبية، وبسجل فى التدخل يعود إلى مئات السنين، لم تبلغ دولة آسيوية من العظمة والقوة ما يسمح لها بفرض الهيمنة والتدخل بحرية فى شئون دول أخرى.

تبقى أوكرانيا نموذجا لدولة يغرى وضعها الجيوسياسى القوى العالمية الكبرى للتدخل فى شئونها بل ومحاولة تقرير مستقبلها. لن يكون صعبا على مراقب أجنبى أن يتوصل إلى نتيجة مؤداها أن روسيا لا يمكن أن تتساهل تجاه جهود أمريكا وغرب أوروبا سلخ أوكرانيا من دائرة الجوار الروسى، وأن أمريكا ودول الغرب لن تتوقف عن بذل جهودها لمنع روسيا من جنى ثمار جهود الهيمنة على دول الجوار أملا فى استعادتها واحدة بعد الأخرى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved