عملات بريكس.. كيف يجب أن نراها؟

مدحت نافع
مدحت نافع

آخر تحديث: الإثنين 27 فبراير 2023 - 8:45 م بتوقيت القاهرة

منذ أيام تلقيت دعوة كريمة لحضور لقاء للخبراء استضافه معهد التخطيط القومى، الذى يترأسه الدكتور أشرف العربى وزير التخطيط السابق، والذى بجهوده وعلمه وخبرته استطاع أن يبعث فى المعهد روحا جديدة منذ أن تولى قيادته. مدى الدعوة كان البحث فى آليات لتبادل الجنيه المصرى مع بعض العملات الوطنية لتجمّع دول بريكس. وقد اتفق معظم المشاركين على أن الأزمة الحقيقية التى يعانيها الاقتصاد المصرى منذ عقود ليست أزمة نقدية، بل هى أزمة فى الاقتصاد العينى، يمكن ردّ كل فروعها إلى أصل واحد، وهو نقص الإنتاج وقصوره عن تلبية الطلب المحلى أو للتصدير. فلو أننا حاولنا التخلص من أزمة شحّ الدولار الأمريكى باستبداله بعملات أخرى، فهذا لا يقدم أى حلول مستدامة للاقتصاد المصرى، حتى وإن ساهم (بشروط معينة) فى تخفيف الضغط على الدولار لأسباب تتعلّق بالمضاربة أو تخزين القيمة.
الأزمة إذن فى جانب العرض، وهى التى يتوقع معظم الاقتصاديين بأن تشكل واقع الاقتصاد العالمى الجديد، متمثلا فى: النكوص عن درب العولمة، واضطراب سلاسل الإمداد، وصعوبة حركة العاملين، وتسليح منتجات الطاقة ونظم المدفوعات الدولية، وانتهاء عصر النقود الرخيصة والفائدة الصفرية أو السالبة.. بما ينعكس كله على حجم الإنتاج العالمى، ويغذى موجات التضخم بصدمات مصدرها جانب العرض، وليس جانب الطلب كما كانت الحال فى معظم دول العالم. الخروج من دائرة التضخم والتشديد النقدى (رفع أسعار الفائدة فى الأساس) الذى يرفد ارتفاع الأسعار برافد خطير من خلال التأثير على تكلفة التمويل ومن ثم الاستثمار، لن يتحقق إلا بتوطين الإنتاج الزراعى والصناعى بغرض إشباع الطلب المحلى، وإحلال المنتج المصرى محل المنتج المستورد، فضلا عن تحقيق فائض للتصدير.
علما بأن هيكل الصادرات هو أمر مهم، لأن فاتورة الصادرات المصرية البالغة نحو 45 مليار دولار سنويا لا يمكن أن تتحقق فى غيبة الكثير من الواردات المستخدمة فى العملية الإنتاجية، سواء من المعدات وخطوط الإنتاج الرئيسة، أو من مدخلات الإنتاج. كذلك ترتفع مساهمة المواد الخام غير المصّنعة المصدّرة من مصر إلى دول العالم، على حساب المنتجات ذات القيمة المضافة، التى تكتسبها منتجات التصدير من خلال عمليات تصنيع محلية.
• • •
الطلب المرتفع على الدولار فى مصر هو طلب مشتق من الطلب على النقد الأجنبى لسداد فاتورة الاستيراد التى ناهزت التسعين مليار دولار سنويا، ولسداد خدمة الدين الخارجى الذى يقترب من قيمة 157 مليار دولار وفق أحدث البيانات المعلنة. وكما ذكرت فى غير مقال سابق، فإن قوة العملة الأمريكية ومؤشرات تلك القوة تنبع من عدد من الوظائف التى تمارسها فى الاقتصاد العالمى المعاصر؛ فنحو 80% من حجم التجارة الدولية يتم بالدولار، وهو يمثل ما يزيد على 60% من حجم الاحتياطيات بالبنوك المركزية، وربما أكثر من تلك النسبة بكثير إذا أخذنا فى الاعتبار الدول التى تحوّلت بالكامل إلى الدولرة (مثل لبنان) ، وتلك الدول تحتفظ بأقل قدر من الدولار الأمريكى فى احتياطيها. كذلك يسيطر الدولار على إصدارات الدين وتسوية المعاملات بصورة لا تحتمل الشك. محاولة هز الدولار عن عرشه إذن لن تتم فى أى أجل قريب، لأن الدول المستخدمة له مستفيدة من قيامه بتلك الوظائف بدرجة لا تقل عن الولايات المتحدة ذاتها.
كذلك لا يمكن أن نغفل أن مجموعة دول «بريكس» تضم الهند كأهم اقتصاد فى المجموعة بعد الصين، وهى دولة صديقة للولايات المتحدة وتربطها علاقات استراتيجية معها، ولا يمكن أن تساهم فى إزاحة الدولار الأمريكى عن عرشه دون عواقب وخيمة تتوقعها من شرطى العالم. لذا فسوف تعمل الهند، وغيرها من الدول التى انضمت أو فى سبيلها إلى الانضمام إلى التجمع الموسّع لبريكس وبنك التنمية الملحق به، على مراعاة التوازن بين علاقاتها بالولايات المتحدة من جهة، وتحقيق بعض المصالح (غير المؤكدة) من خلال البحث عن عملة جديدة للتجمع، أو إنجاز التجارة البينية بالعملات الوطنية للدول الأعضاء.
كذلك لا ننسى أن عمليات التجارة التى تمت بعملات وطنية على نطاق ضيق بين دولتين، ما زالت تستعين بالدولار الأمريكى لتحديد قيمة تلك العملات فى المعاملات المذكورة! فضلا عن أن اختلال موازين التجارة لصالح دول على حساب دول أخرى، من شأنه أن يجعل الدول ذات الفائض حريصة على تلقّى مشتقات تبادل Swaps أو على استبدال أرصدة العملة الوطنية لشركاء التجارة من دول العجز بعملات مقبولة (مثل الدولار أو اليورو) فى نهاية كل عام، محمّلة بذلك دول العجز (ومنها مصر التى يغلب العجز على موازين تجارتها مع مجموعة بريكس) بضغوط كبيرة فى نهاية كل عام وبداية العام الجديد، بما يمكن وصفه بأثر يناير January effect، الأمر الذى يقلل أو ربما يضيع الميزة النسبية لاستبدال الدولار فى التعاملات. مخاطر العملات الوطنية غير المقبولة على نطاق واسع تحمّل الدول المصدرة لتلك العملات أو لأى سندات أو أذون أو صكوك صادرة بها بهامش مخاطرة كبير، ذلك الهامش يلغى الكثير من المكاسب المحققة لاستبدال العملات الصعبة بعملات وطنية فى التعاملات.
هناك أيضا دول البترودولار أو الدولار النفطى من دول الخليج العربى تحديدا، التى يمكن أن يكون انضمامها إلى التجمع إضافة مهمة. لكن تلك الدول تربط عملاتها الوطنية بسعر صرف ثابت مع الدولار، وكان لاتفاقها التاريخى مع الولايات المتحدة على أن تتم جميع صفقات النفط بالدولار دور مهم فى تعزيز قوة العملة الأمريكية فى الأسواق، ولا يتصور أن تقدم تلك الدول على تصرّف منفرد يخل بهذا الاتفاق دون أن تتلقى ضربة كبيرة من الولايات المتحدة، أدنى مظاهرها هو التخلّى عن حماية تلك الدول من عدوها الإقليمى التقليدى، والامتناع عن تزويدها بالسلاح. كذلك من الأهمية بمكان أن نتعلم من دروس وعبر التاريخ فى المحاولات الفاشلة السابقة للتخلّص من الدولار.
أما اليوان الصينى الذى هو عملة ثانى أكبر اقتصاد فى العالم، فتنقصه الكثير من الخصائص التى يمكن أن تجعله عملة الاحتياطى أو عملة التجارة الدولية. ولعلنا لاحظنا أن دخول العملة الصينية ضمن سلة عملات حقوق السحب الخاصة لصندوق النقد الدولى، كان بوزن نسبى منخفض، ولا يمكن مقارنته حتى باليورو أو الاسترلينى. من الخصائص التى تميّز عملة الاحتياطى ما يجب أن يتمتع به النظام المصرفى للدولة المصدرة من شفافية واستقلالية وانضباط، وهى سمات يصعب أن يوصف بها نظام مصرفى فى دولة شديدة المركزية مثل الصين.
أما عن إصدار عملة رقمية مشتركة لدول بريكس، فهذا اقتراح جيد يحتاج إلى دراسة عميقة، وإلى تحقيق نوع من التكامل النقدى بين تلك الدول، وإلى تأسيس جهة مركزية لإصدار وإدارة المعروض النقدى لتلك العملة.. وهى مسألة غاية فى الصعوبة، وليس أدل على صعوبتها من تجربة منطقة اليورو، وفشلها حتى اليوم فى تحقيق التوازن النقدى بين الدول الأعضاء، وانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبى على خلفية العديد من الأزمات ذات الطابع الاقتصادى للتجمّع الأوروبى الأكثر نجاحا عالميا!
• • •
الخلاصة التى توصّل إليها الخبراء لم تخرج عن كون الاقتصاد المصرى فى حاجة إلى تعزيز تنوّعه، وتعميق مكوناته المحلية بصورة تقلل من الاعتماد على الديون الخارجية لتمويل احتياجات التنمية. وأيضا تخفيض فاتورة الاستيراد، مع تعظيم إيرادات التصدير، وخاصة تصدير المنتج ذى القيمة المضافة، والخدمات السياحية واللوجستية التى نمتلك جميع مقوماتها محليا.
هذا النوع من الموائد المستديرة وورش العمل ومجموعات التركيز متى تم استضافته من قبل بنوك ومراكز الأفكار مثل مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بقيادته الشابة المتميزة، ومعهد التخطيط القومى وغيرهما من مراكز حكومية أو تابعة للقطاع الخاص أو الأهلى، يجب أن نمتلك الآليات التى تحوّل منتجاته الفكرية إلى خطط وقرارات وإجراءات على أرض الواقع.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved