حنين إلى الإمبريالية

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 27 مارس 2014 - 8:29 ص بتوقيت القاهرة

مرة أخرى تظهر الولايات المتحدة بمظهر القائد المتخاذل. الدولة الأعظم التى تقود العالم الغربى لأكثر من ثلاثة أرباع القرن تعاقب روسيا على فعلتها فى أوكرانيا بحرمان بعض قادة موسكو من زيارتها وبفرض قيود على حركة رءوس أموالهم فى الخارج. مرة أخرى تقف أوروبا الغربية موقف الحيرة والتردد لا تجرؤ مجتمعة على اتخاذ قرارات ضد روسيا تتجاوز بها القرارات الأمريكية، ولا تستطيع منفردة أن تتحمل مجرد الاحتمال بأن روسيا قد تغضب فتقطع عنها الغاز، أو ترفع تكلفة وصوله إليها. أوروبا، هذه الكلمة المثيرة بسحرها وتاريخها ومآسيها عبر القرون، لم يتوصل قادتها بعد إلى تعريف واضح لمعناها ومحتواها.

•••

ارتبطت الكلمة فى قرون سابقة بسير إمبراطورياتها والصراعات بينها، وارتبطت سياسيا ومنذ نشأة الاتحاد الأوروبى، بقرارات وسياسات تتخذ فى كل من لندن وباريس. تعمدت ألمانيا أن تترك لبريطانيا وفرنسا مسئولية نشر الوهم بوحدة القارة وفشلتا، فتدخلت داعية للوحدة النقدية ومتحملة تكلفة هائلة فى سبيل إقامة «أوروبا الموحدة». دخلت تجربة إنقاذ أوروبا من الإفلاس الاقتصادى فى عام 2008، ونجحت فى تفادى سقوط الفكرة وكان الثمن باهظا. وعندما انسحبت كل من بريطانيا وفرنسا من موقعى القيادة داخل الاتحاد الأوروبى تقدمت خطوات نحو القيادة، لا لتملأ الفراغ الناتج عن غيابهما أو عن عجزهما، ولكن لتمنع انفراط الاتحاد. تقدمت أيضا لسبب لعله أهم كثيرا بالنسبة للنظام الدولى منه بالنسبة للنظام الأوروبى، تدخلت لمنع الولايات المتحدة من جر أوروبا إلى كوارث وحروب لا ناقة للقارة فيها ولا جمل.

بهدوء وحذر ولكن بجهد ملموس تدخلت ألمانيا لمنع الرئيس بوش من شن الحرب ضد العراق، وهى الحرب التى أذنت، إلى جانب أشياء أخرى، بإعلان نهاية مشاركة بريطانيا فى قيادة أوروبا الغربية، وربما عضويتها فى الاتحاد الأوروبى. وتدخلت لتقنع بريطانيا وفرنسا بعدم التورط فى أحداث ليبيا بعد الثورة، ولم يقتنعا. بقيت ليبيا الجديدة شاهدة على عمق الجريمة التى ارتكبتها الدولتان بحماية الأمم المتحدة وحلف الأطلسى.

تدخلت أيضا، بنفس الهدوء والحذر، لتحول دون جرجرة أوروبا فى الوحل السورى، ولكنه التدخل الذى لم يطرح بديلا ينقذ سوريا وشعبها من مأساة لن يغفر التاريخ للكثيرين، عربا وغير عرب، أدوراهم فيها.

•••

غير معروف بالوضوح الكافى الدور الذى تلعبه ألمانيا حاليا فى الأزمة الأوكرانية. أوكرانيا تعنى الكثير لألمانيا، فالعلاقة التاريخية والموقع الإستراتيجى وحساسية علاقة أوكرانيا بروسيا، كلها عناصر تجعل ألمانيا حريصة على وقف تصعيد التوتر وتهدئة غضب موسكو وتبريد أعصاب شياطين الحرب الباردة فى الولايات المتحدة، والانتباه بكل قوة لتحركات التيارات النازية والقومية المتشددة فى ألمانيا كما فى غيرها من أقطار وسط أوروبا. تجعلها أشد انتباها لمشاعر الخوف لدى الأقليات العرقية، وبخاصة الروسية، المنتشرة فى دول الجوار الروسى. وبخاصة فى دول البلطيق ومولدوفا وأوكرانيا وجورجيا. هذه العناصر مجتمعة ومنفردة تسببت فى أزمنة سابقة فى إثارة حروب بدأت محلية وانتهت قارية أو عالمية.

تركيزى فى هذا المقال على ألمانيا لا يعنى أننى أتوقع من السيدة ميركل أن تنهض مرة واحدة وتخطو خطوة واسعة نحو احتلال موقع قيادة دول الغرب فى مواجهة مصيرية مع روسيا. لا اتوقع من جانب ألمانيا تطورا من هذا النوع أو على هذا المستوى، ولكنى أشعر بأن اللحظة الراهنة فى العلاقات بين الغرب وروسيا «لحظة ألمانية» بالضرورة.

•••

قليلون فى الصفوة الحاكمة فى روسيا، وأقل منهم هنا فى العالم العربى وفى إيران والصين، يعتقدون أنه بقى لفرنسا أو بريطانيا دور تلعبه فى أزمة دولية معقدة، مثل الأزمة الأوكرانية أو الأزمة السورية. آخرون، ربما أقل عددا، أدركوا المدى الذى انحدرت إليه السياسة الخارجية الأمريكية. وبتعبير أكثر دقة، هناك عدد أكبر من الناس فى أنحاء كثيرة من العالم صار يصدق ما يتردد أمريكيا عن «تفضيلات» الرئيس الأمريكى فى السياسة الخارجية، ونوايا الابتعاد، بكل الطرق الممكنة، عن مصادر الاشتباك المسلح أو بؤر الأزمات الحادة. قد يكون غرضه الاستعداد للانتقال بكثافة وتركيز إلى الشرق البعيد، حيث المستقبل يصنع على نيران متعددة ولكن هادئة. وقد يكون غرضه التدرج نحو صيغة أمريكية أكثر تناسبا مع حقيقة قدراتها الراهنة والمتاحة.

فى إطار هذا الفهم استطيع ان أقدر حساسية المفاوضات التى سوف تجرى فى الرياض بين العاهل السعودى والرئيس الأمريكى، أتوقع نوعا من العتاب المتبادل بين الطرفين. فالموقف الأمريكى من احتلال شبه جزيرة القرم ثم ضمها إلى روسيا دليل قوى على تساهل إدارة الرئيس أوباما فى التعامل مع دول تهدد «الوضع القائم»، وتتجاوز الأعراف الدولية. من ناحية أخرى، تجد السعودية نفسها فى صف واحد مع دول مثل روسيا والصين وإيران، تتعرض جميعها لتدخل أمريكى فى مجالات حقوق الإنسان ومسائل داخلية، وتجد بين مواطنيها ونخبتها الحاكمة من يتعاطف مع روسيا فى هذا الشأن، بل لعلها تكتشف أنه لا ضرر محتملا يمكن أن يهدد الحكم فيها يأتيها من الصين أو من روسيا، على عكس تيقنها من أن معظم الضرر الواقع عليها أتاها من أمريكا وحلفائها فى الغرب.

على الجانب الآخر، يشعر الأمريكيون أن السعودية مقبلة على فترة عصيبة، فالنظام العربى الذى سلمها مقاليد قيادته منفردة بعد أن تنحت مصر لأسباب معروفة، يمر بمرحلة صعبة لغياب بوصلة ومشروع من أى نوع أو اتجاه. والنظام الفرعى الخليجى يعانى من الانقسامات وسوء الفهم. أضف إلى هذه الأسباب المشكلات الواقعة والمتوقعة فى إقليم الشام والعراق وتركيا نتيجة استمرار تردى أوضاع سوريا، ونتيجة تفاقم عواقب سياسات خليجية طويلة الأمد لدعم تيارات دينية متطرفة.

من المفارقات المثيرة أنه فى الوقت الذى تتأكد فيه عزيمة الرئيس أوباما على النأى بأمريكا عن الأزمات والصراعات الخارجية، وفى الوقت الذى يتأكد فيه أكثر من أى وقت مضى رغبة حكومات فى المنطقة فى الاستعانة بحماية قوى خارجية، يخرج روبرت كابلان، عالم السياسة المعروف بميوله اليمينية القوية، بدعوة صريحة إلى بذل الجهد لاستعادة «النظام الإمبريالى» نظاما للحكم تتبناه الدول العظمى ضمانا للسلم الدولى وحماية للأقليات. يعتقد كابلان أن الأقليات فى أوروبا شهدت عصرها الذهبى فى زمن الإمبراطوريات الكبرى ومنها الإمبراطورية العثمانية، وأن التوازن الإمبراطورى كان كفيلا بتحقيق درجة مناسبة من الأمن والسلم الدوليين.

روسيا، فى رأى كابلان، تمارس سياسة «امبراطورية» بغزوها أجزاء من أوكرانيا وسعيها لفرض سيادتها على دول وأقاليم أخرى فى جوارها الإقليمى. وأمريكا فى رأيه، الدولة الإمبريالية بامتياز تتخلى الآن عن تقاليدها الإمبراطورية. لا أحد بين المؤرخين العظام أنكر أن للتوسع الإمبريالى الأمريكى الفضل فيما وصلت إليه أمريكا من قوة، وما تحقق للعالم من أمن وسلام فى ظل هيمنتها «الإمبراطورية». هذه الإمبراطورية، حسب تحليله، يحسن أن تعود.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved