احموا أطفالنا من أهلهم
رانية فهمى
آخر تحديث:
الأحد 27 مارس 2016 - 10:41 م
بتوقيت القاهرة
«حندوس على كل آلامنا، ونخلى أحلامنا قدامنا».
أحرص دائما أن أكون فى الصفوف الأمامية للمسرح كى أشاهد عن قرب ذرات الأتربة وهى تتناثر عندما تدب نجلاء ووردة بأحذيتهن «الكوتشى» الصغيرة على خشبة المسرح وهن تغنيان أغنية «الأحلام» بتصميم على سحق آلامهن بها، والبريق والتصميم فى أعينهن التى تلمع وكأنهن تستدعيان أحلامهن وتذكران أنفسهن بها.
نجلاء
أشاهد نجلاء ذات الـ12 عاما وهى تدب فيها الحياة وتتمايل مع فقرتها الغنائية. أهذه نفس الفتاة التى جاءت إلى دار الإيواء من سنة واحدة، بعد هروبها من بيت أهلها، وهى تنظر حولها بهلع من الدنيا ومن الناس؟ تقبع فى ركن صغير على سريرها فى غرفة مؤسسة الأطفال بلا مأوى، التى تضم خمس بنات غيرها، وتضم رجليها بذراعيها وتدفن رأسها فيهما. بالضبط كما كانت تفعل فى غرفتها فى بيتها وهى مثبتة نظرها على باب الغرفة الموصد وتدعو فى سرّها ألا يفتحه أبوها عنوة منتهزا فرصة عدم وجود الأم والإخوة فى المنزل. «يارب تنشق الأرض وتبلعنى قبل أن يعاود أبى كرته. لماذا أنا بالذات من دون العالم؟ ولماذا تضربنى أمى عندما أقول لها ما يفعله وتقول لى: احمدى ربنا أنه لا يفعل هذا مع «واحدة غريبة»، لا تفضحينا».
وأدعو فى سرى: يا رب اجعل هذه الحفلة إحدى الطرق العديدة التى نحاول بها طرد شبح الجرم الذى تتحمله كل يوم من حياتها القصيرة. يا رب طوّل فى تأثير هذه اللحظات حتى لا تنتكس مثلما حدث فى المرات الثلاث من وقت انضمامها إلى أسرة بيت الإيواء.
وردة
بعد الحفل بيوم واحد: «ألن تعطينى حضنا اليوم؟» اسأل وردة عندما فرغت من قراءة وتمثيل حكاية الصباح لمجموعة من أطفال مؤسسة الرعاية قبل أن أبدأ يوم العمل الطويل وأفاجأ بها تنفجر فى البكاء وتصيح: «أنا أريد حضن ماما، أريد الذهاب إليها، لا أريد البقاء هنا». انظر غير مصدقة، تاااانى، كنت أعتقد أنها تعافت. ألم تسمع التصفيق الحاد بالأمس لغنائها ووقوف الجمهور لها تشجيعا واستحسانا؟ تشوح بيديها بتشنج فينحسر الثوب عن حروق فى بطنها وذراعيها تحاول دائما إخفائها بارتداء ملابس أكبر من سنوات عمرها التسع. هذه الصغيرة استحضرت صورة للأم التى يجب أن تكون، الأم التى تحضن، التى تعطى الدفء والأمان، وليست أمها الحقيقية التى سببت لها هذه الحروق فى مرات عديدة كعقاب لها على شقاوتها مما جعل وردة تفتح باب البيت وتنزل الشارع حتى أتت إلى المؤسسة بعد تحويلها من خط نجدة الطفل 16000. لم يأت أحد من أهل وردة ليسأل عنها منذ انضمت إلى أسرة بيت الإيواء.
***
عندما تنتهك الروح والجسد من أقرب المقربين فهل يكفى تسميته «عنف أسرى» أو «بلطجة» كما ورد فى تعديل قانون العقوبات؟ أنا أسميه «تعذيبا» فهل هناك أبشع من أن يأتى الإيذاء من المستأمنين على أمن الأطفال وسلامتهم وحياتهم؟ نجلاء ووردة وآلاف غيرهن من الأطفال تعرضوا ويتعرضون لما يسميه العاملون فى مجال حماية الطفل «الخطر المحدق» ويعرفونه بأنه «كل عمل إيجابى أو سلبى يتهدد حياة الطفل أو سلامته البدنية أو المعنوية على نحو لا يمكن تلافيه بمرور الوقت» ومنه الإيذاء البدنى الشديد الذى يسبب الألم والمعاناة الشديدة للطفل ويمكن أن يسبب إصابة او إعاقة أو وفاة للطفل، واستغلال الأطفال فى أعمال التسول والاتجار فى البشر، وجميع حالات الاعتداء الجنسى عليهم.
ماذا نفعل نحن الكبار لدرء هذا الأذى الشديد عن أطفالنا؟ يقول دستور مصر فى مادته الـ80: «لكل طفل الحق فى مأوى آمن.. وتلتزم الدولة برعاية الطفل وحمايته من جميع أشكال العنف والإساءة وسوء المعاملة والاستغلال الجنسى والتجارى». ويعاقب قانون الطفل فى مادته الـ96: «كل من عرّض طفلا لإحدى حالات الخطر بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر وبغرامة لا تقل عن ألفى جنيه ولا تجاوز خمسة آلاف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين».
كما استحدث القانون حوائط صد هذه المخاطر تسمى الإدارة العامة لنجدة الطفل بالمجلس القومى للطفولة والأمومة ولجان الحماية فى كل محافظات مصر وأعطى الأخيرة صلاحيات استثنائية منها اتخاذ إجراء قانونى لحماية الطفل وإزالة الخطر عنه من خلال نيابة الطفل مثل إنذار مقدم الرعاية بعدم تعريض طفل للخطر، تحريك جنحة تعريض الطفل عمدا لإحدى حالات الخطر، التوصية لدى نيابة / محكمة الطفل بفصله عن والديه بصفة مؤقته أو دائمة وإصدار قرار إيداع مؤقت للطفل لدى عائلة أو مؤسسة كعائل مؤتمن إلى حين زوال الخطر عنه.
ولكن هل هذه النصوص كافية؟
هل تكفى عقوبة ستة أشهر لمحاسبة المعتد»؟
لماذا لم ينص القانون على المدة الزمنية من وقت الإبلاغ عن الانتهاك وحتى صدور الأمر بسلب الولاية من ولى الأمر؟
ثم إنى لا أفهم إطلاقا كيف ذكر المشرع فى هذه المادة حالة التحرش الجنسى فقط وتغافل عن ذكر أبشع الجرائم وهى هتك العرض والاغتصاب بينما أفرد لهما المادتين (267 و269) من قانون العقوبات حيث تصل العقوبة إلى السجن سبع سنوات لو كان هتك عرض الصبى أو الصبية بغير قوة أو تهديد وإلى السجن المؤبد إذا كان الفعل بغير رضا الأنثى؟! فطالما يوجد قانون مخصص للطفل فلماذا هذا التشتت فى مواد التجريم الذى يربك النيابة والمحكمة عند توقيع العقوبة حيث يستند البعض إلى مادة قانون الطفل ذات العقوبة الأقل التى تذكر التحرش الجنسى فقط والبعض الآخر إلى مادة قانون العقوبات حيث العقوبة أشد؟
***
وعلى أية حال فكيف يترجم الواقع هذه النصوص؟ قناعتى أنها للآن ترجمة ركيكة.
ينفض المجتمع يده عن هذه الانتهاكات بمباركة ثقافة العنف صمتا أو استكانة حيث أصبحت هذه الثقافة مرضا لا يريد أغلب أفراده الاعتراف بوجوده أصلا خاصة إذا كان المعتدى ولى الأمر المسئول عن الطفل، لا أحد له الحق فى التدخل فى معاملته لأطفاله. وينظر الطفل نفسه إلى الإيذاء كعقاب له على خطأ لا يدركه وكحق لذويه أو من فى حكمهم وليس حقا عليهم، ويصبح الملاذ الوحيد له هو الصمت أو الاحتجاج باللجوء إلى الشارع. وأتساءل: هل ضرب مبرح يصل إلى حد إحداث عاهة، وهتك عرض واغتصاب، وإرغام على التسول فى الطرقات، مجرد اختلاف فى وجهات نظر فى طرق التربية؟
لا توجد لجان حماية أصلا فى كثير من الأحياء، وإن وجدت فيتحمل أعضاؤها أعباء جسيمة بسبب نقص الإمكانات البشرية والمادية والتى لا تتلاءم مع كثرة البلاغات عن الانتهاكات واحتياج الطفل إلى تدخلات من جهات عديدة ومتداخلة. كما لا يوجد لهذه اللجان سلطة الضبطية القضائية التى تمكنها من سرعة سحب الطفل من مكان الخطر ونقله إلى مكان آمن.
وتقف غالبية مؤسسات الرعاية عاجزة عن وقاية وحماية الأطفال المترددين عليها فى مراكز الاستقبال النهارى، حتى التى لديها خبرة سنوات من العمل الميدانى والعلاقات الوثيقة مع مجتمع الطفل من أسرة وحى ومدرسة لعدم درايتها بمن تلجأ له فى حالات الخطر المحدق وماذا عليها أن تفعله، ناهيك عن عدم تدريب مقدمى الرعاية على كيفية توثيق الانتهاكات وخاصة الجنسية وتوفير الأدلة التى يعتد بها عند تقديمها للجهات المعنية، بما يضمن حق الطفل فى الخصوصية والسرية، وحق المؤسسة نفسها فى السرية حال قيامها بالإبلاغ عن المعتدى لتتقى بطشه الذى يمكن أن يطال العاملين وباقى أطفال المؤسسة إذا تأخرت الشرطة فى ضبطه وإحضاره.
بالرغم من صعوبة المشكلات لفداحة الانتهاك، تعكف الآن منظمة اليونيسيف مع وزارة التضامن ومجلس الطفولة والأمومة وغيرها من الجهات المعنية على خلق منظومة لحماية الطفل تحدد أدوار كل الشركاء وتضع دليلا للإجراءات التى يجب على الجميع التدرب عليها ثم اتباعها.
***
ماذا نريد من هذه المنظومة؟ نريد حملة قومية لنبذ العنف. نريد حملة إعلامية قومية ترسل رسالة لنجلاء ووردة وغيرهن من البنات والأولاد أن هذا الأذى ليس ذنبهم وأن هناك من سيسمعهم ويحميهم، وأنه يمكنهم طلب المساعدة عن طريق خطوط مساندة الطفل تابعة لجمعيات أهلية تعمل مباشرة على الأرض ومع الأطفال ــ وليس خطا واحدا فقط «16000» تابعا للمجلس القومى للطفولة والأمومة ــ والتى يجب أن تظل مفتوحة ليلا ونهارا وتكون متصلة بشبكة مع خط نجدة المجلس لكى تستطيع معا تقديم كل الدعم والخدمات التى يحتاجونها بطريقة فعالة وفورية.
نريد أن تكون هناك لجنة حماية الطفل فى كل حى من أحياء مصر وتذلل لها كل العقبات لكى تقوم بدورها المنصوص عليه فى القانون وخاصة فى حالات ثبوت تعرض الطفل للخطر المحدق من استدعاء للأهل أو ما فى حكمهم، ورفع دعوى مباشرة للنيابة العامة والتوصية لدى المحكمة لسلب ولاية الأهل. نريد دليلا للخدمات الطبية والنفسية والقانونية وغيرها المتاحة بكل حى حتى يمكن للجنة إحالة الطفل إليها بسرعة. نريد أن يعرف الجميع مواطن القوة والضعف لمؤسسات الرعاية حتى يمكن لأجهزة الدولة الاستفادة من خبراتها القوية ودعم أوجه القصور. نريد تطبيق معايير عالية لجودة مؤسسات الرعاية حتى تتمكن خطوط مساندة الطفل ولجان الحماية من إحالة الطفل لدور الرعاية التى تستطيع التعامل مع المخاطر الشديدة التى يتعرض لها الأطفال. ونريد محكمة طفل يكون قضاتها على بيّنة ودراية بنفسية الطفل وظروف نشأته وحجم الجُرم الواقع عليه.
نريد أن ندب جميعا، أطفالا وكبارا، بأقدامنا على الأرض ونسحق معا آلام الصغار خاصة لو كان مصدر هذا الألم الأهل أنفسهم. لعلنا بعد ذلك نكفر عن سيئاتنا.
***
أسماء الأطفال الواردة تم تغييرها.
رانية فهمى
معنية بحقوق الطفل