النجاح الماليزى يبلغ عامه العشرين!

محمد يوسف
محمد يوسف

آخر تحديث: الثلاثاء 27 مارس 2018 - 11:00 م بتوقيت القاهرة

إن كانت هناك تجربة تستحق أن يُضرب بها المثل فى النجاح أمام برامج صندوق النقد الدولى، فإنها التجربة الماليزية. وإن كانت هناك تجربة حية يمكن الاستدلال بها على خطورة التحرير المنفلت لحساب رأس المال على مقومات النشاط الاقتصادى، فإنها التجربة الماليزية. وإن كانت هناك تجربة تنموية يمكن الاعتماد
عليها والاسترشاد بها فى الدعوة لبرنامج «إصلاحي ــ تنموى» وطنى، فإنها أيضا التجربة الماليزية.
منذ عشرين عاما، وتحديدا فى العام 1998، أعلنت السياسة الاقتصادية الماليزية التمرد على «روشتة» صندوق النقد الدولى، والتى قُدمت إليها فى أعقاب الأزمة الآسيوية ذائعة الصيت. فلقد اعتقد القائمون على الاقتصاد الماليزى آنذاك أن مكونات هذه «الروشتة» لا تُناسب طبيعة الأزمة التى تلم به، وأنها لن تساعده على الخروج السريع من براثنها، وأنها غير عادلة فى توزيع أعباء وتكاليف العلاج وفق معيار «المسئولية فى الحدوث» ومعيار «القدرة على التحمل». فـ«روشتة» الصندوق ــ فى رأى صانع السياسة الاقتصادية الماليزية ــ مصاغة خصيصا للتصدى للمشكلات الاقتصادية بالبلدان الرأسمالية المتقدمة، وهى لذلك لا تواجه مكامن الخلل الحقيقى الذى أنشأ أزمة ماليزيا ضمن الأزمة الآسيوية. وفضلا عن ذلك، تُحمِّل غير المتسببين فيها (الفقراء ومحدودى الدخل تحديدا) مسئولية نشوئها، وتحملهم كذلك العبء الكامل للخروج منها، بما تخلقه، بالضرورة، من موجات تضخمية عنيفة!
على أية حال، عندما نشبت أزمة «النمور الآسيوية» بداية فى جسد اقتصاد تايلاند، وانتشرت تباعا فى اقتصادات كوريا الجنوبية واندونيسيا وماليزيا، ولحقتها باقى بلدان جنوب شرق آسيا، أُشير حينها للتحرير المالى المنفلت بكل أصابع الاتهام والمسئولية. فبينما حققت أغلب هذه الاقتصادات نهضة تراكمية فى قطاع الصناعة التحويلية فى عقود ما بعد «المعجزة اليابانية» فى ستينيات القرن الماضى، إذ بأسواقها المالية المنفتحة على الأسواق الرأسمالية المتقدمة تقودها لأسوأ عمليات هروب رءوس الأموال شهدها العالم فى العقود الستة المنصرمة.
فسلوك «القطيع» الذى تحلى به الاستثمار الأجنبى المتوطن فى أسواق هذه البلدان، وأنشطة المضاربات المالية والعقارية عديمة الأثر التنموى، تسببا فى صيف العام 1997 فى انهيار سريع لعملاتها الوطنية، وفى تفاقم كبير للقروض المحلية المتعثرة، وفى نمو أُسى للمديونية الخارجية قصيرة الأجل، وفى الانكشاف الكامل لاقتصادات هذه البلدان أمام تيارات العولمة المالية.
****
كان العام 1998 هو العام الذى وصلت فيه الأزمة الآسيوية ذروتها. ولم تكن ماليزيا خلال هذا العام بأحسن حالا من باقى بلدان الأزمة. فلم يُغنها تفوقها فى الاقتصاد الحقيقى على باقى هذه البلدان (بما فيها الاقتصاد الكورى الجنوبى) فى معدل النمو المحقق فى سِنى ما قبل الأزمة (بلغ متوسط نمو الاقتصاد الماليزى فى السنوات الأربع السابقة على الأزمة 10% سنويا تقريبا)، عن الوقوع فى فخ «الهروب الكبير». فعندما بدأ شهر يوليو من العام 1997، أخذت رءوس الأموال تحزم حقائبها فى كوالالامبور وتستعد للهروب للملاذات الرأسمالية الآمنة، وهى تعلم جيدا أنه ما من سياسة اقتصادية ستقف فى طريقها، طالما ظل حساب رأس المال محررا من قيوده.
ثم تشتد الأزمة المالية الماليزية ضراوة، وتزداد الصورة قتامة. فها هى صافى التدفقات فى الاستثمار الأجنبى المباشر تصل لأدناها، وها هو الحساب المالى يحقق عجزا سنويا غير مسبوق، وها هى الاحتياطات الماليزية من العملات الأجنبية تنهار لمستوى الخطر، وها هى الصادرات السلعية والخدمية تتراجع بحدة، وها هو التضخم يقفز لمستوى قياسى (5.3% تقريبا فى العام 1998). وكان من نتيجة ذلك أن انقلب النمو الاقتصادى الماليزى المدهش ليصبح انكماشا مأساويا نسبته 7.4% فى نفس ذلك العام.

فى ضوء هذا الوضع المتردى، وفى ضوء الحاجة الملحة للإنقاذ، وجد الاقتصاد الماليزى نفسه أمام مفترق طرق تاريخى. فإما أن يستجيب لتلويح صندوق النقد الدولى الذى يمد إليه يد الإنقاذ من شاطئ الرأسمالية المؤمن، ويقبل أن يسير فى ركابه مثلما سار الجيران المأزومون، أو أن يُعبّد لنفسه طريقا علاجيا مستقلا بالاعتماد على ذاته المنهكة بفعل الأزمة. إنه حقا اختبار مُحير وعصيب!
وزاد من حيرة صانع القرار الماليزى، اتخاذ كوريا الجنوبية قرارها بالسير الحذر فى طريق الصندوق. وهو القرار الذى كان كفيلا بترجيح كفة هذا الطريق، لما يتمتع به الاقتصاد الكورى الجنوبى من ثقل عالمى فى الصناعة، ومن نجاح باهر فى ترقية مؤشرات التنمية، ولما تشتهر به سياساته الاقتصادية من رشادة وكفاءة. ومع ذلك، اتخذت ماليزيا القرار الصعب، وأعلنت سياستها الاقتصادية التمرد!
فتقليد القرار الكورى كان سيعنى ــ ضمنيا ــ اعتقاد السياسة الاقتصادية الماليزية بالتشابه بين مستوى التطور التنموى فى ماليزيا مع نظيره الكورى. وهو اعتقاد تدحضه مؤشرات التكنولوجيا والتصنيع والتصدير، والتى يعلمها جيدا القائمون على أمور السياسة الاقتصادية فى البلدين. ولما كان الاختلاف فى مستوى التطور التنموى يعكس اختلافا مماثلا فى قدرة الاقتصاد الوطنى ــ أى اقتصاد ــ على صلاحية تطبيق «روشتة» الصندوق العلاجية، وعلى قدرته على تحمل تكاليفها، فإن ذلك كان سببا كافيا فى اقتناع السياسة الاقتصادية الماليزية بوجوب التمرد على هذه «الروشتة» المكلفة.

***

فبينما تقتضى «روشتة» الصندوق ــ المحفوظة عن ظهر قلب ــ العمل على تحرير سعر الصرف، إذ بالسياسة الاقتصادية الماليزية تُدافع عن قيمة عملتها الوطنية فى سوق الصرف الأجنبى، وتربط الرينجت (عملة ماليزيا) بالدولار عند مستوى 3.8 رينجت/للدولار ابتداء من العام 1999، وتحارب بصرامة أنشطة المضاربة على قيمته محليا ودوليا. وبينما تطالب هذه «الروشتة» بزيادة سعر الفائدة لمستويات قد تصل للضعف، خفضت ماليزيا سعر الفائدة لما دون النصف، لتحفيز الطلب الاستثمارى المحلى، ولتقليل كلفة المديونية المحلية.

ولئن كانت «روشتة» الصندوق تحمل فى طياتها هجوما عنيفا على الدور الاقتصادى للحكومة، وما تنفك تطالب بتصغير حجم الحكومة وتقليل أنشطتها التخطيطية والتنظيمية والرقابية، فإن السياسة الاقتصادية الماليزية زادت من الأدوار التنظيمية والرقابية على النشاط الاقتصادى إبان الأزمة. وفى ذات الوقت، لم تتخل عن مساندة القطاع الخاص الصناعى المتعثر، وتدخلت بسياساتها المالية لعلاج مشكلة الديون المحلية المتعثرة. وفوق كل ذلك، قيدت السياسة التجارية الماليزية أنشطة الاستيراد، وأوصدت الباب أمام حركة حساب رأس المال، وقيدت ــ بأساليب مبتكرة ـ من التحويلات الخارجية للمضاربين. وكل ذلك يعنى ــ ببساطة ــ أن الاقتصاد الماليزى، على مرأى ومسمع العالم، قد ضرب «التوصيات التحريرية» لصندوق الدولى بعرض الحائط!

على أن لسان حال السياسة الاقتصادية الماليزية وهى تضرب «روشتة» الصندوق بعرض الحائط كان يحمل خطابا استنكاريا موجها للصندوق، قائلة فيه: كيف لى أن اقتنع بأنك تُريد لماليزيا الخروج من الأزمة، وأنت تربط بين تقديم العون المالى لاقتصادها المأزوم وبين مزيد من إجراءات التحرير المنفلت لحساب رأس المال أمام المضاربين، ذلك التحرير الذى أوردها الموارد، فكيف تداونى بالتى كانت هى الداء؟!

كان العام 1999 هو عام جنى الثمار فى ماليزيا. ففى هذا العام تبدأ الصادرات الماليزية فى التعافى سريعا، وتنمو بمعدل 13.2% عن العام الركودى السابق، ويرتفع نصيب الصادرات التكنولوجيا المتقدمة من إجمالى الصادرات (بلغت صادرات التكنولوجيا المتقدمة وحدها 40 مليار دولار تقريبا)، ويتراجع معدل التضخم إلى النصف (2.7%)، وينخفض العجز فى الحساب المالى ويبعد عن منطقة الخطر، ويتعافى سوق رأس المال، ويعود للاقتصاد الماليزى جاذبيته أمام الاستثمار الأجنبى المباشر ليتدفق فى القطاعات التنموية، وترجع القيمة المضافة فى قطاع الصناعة التحويلية للنمو كسابق عهدها قبل الأزمة، وينجح الاقتصاد الماليزى فى تحقيق نمو بمعدل معتبر، بلغ مداه 6.1% خلال هذا العام.

وفى مقابل هذا التعافى السريع للاقتصاد الماليزى، وباستثناء الاقتصاد الصناعى الكورى لأسباب تكنولوجية لا تتسع لذكرها هذه المقالة، انكمشت باقى اقتصادات النمور الآسيوية السائرة فى طريق الصندوق، ولم تتعاف مقومات التصنيع والتصدير بها، واشتد عود التضخم فى أسواقها المحلية (وخصوصا حالة الاقتصاد الإندونيسي)، وعانى أبناء الطبقة الوسطى فيها من تراجع فى دخلهم الحقيقى، وتحملوا وحدهم عبء «روشتة» الصندوق العلاجية، واحتاجت أغلب دول الأزمة للعديد من السنوات حتى تعودــ بالكاد ــ لسابق مستواها التنموى!

****

خلال السنوات العشرين التالية للأزمة، تعلمت ماليزيا الدرس جيدا، وأيقن صانع سياساتها الاقتصادية أن برامج تنمية المكون المحلى فى الأنشطة الإنتاجية المحلية، وسياسات دعم القيمة المضافة فى الصناعات التحويلية الوطنية، وجهود ترشيد الإنفاق الحكومى وتنمية الإيرادات الضريبية «العادلة»، واستراتيجيات ترقية التكنولوجيا والمعارف الوطنية، يجب أن تسير جنبا إلى جنب مع سياسات ضبط العلاقات الاقتصادية الخارجية، وخصوصا إذا كان الاقتصاد ما زال فى الأطوار الأولى للنمو الاقتصادى. فعبر القنوات الخارجية غير المنضبطة (كالتحرير المنفلت لحساب رأس المال، و/أو فتح باب الاستيراد على الغارب)، يمكن أن يقع أى اقتصاد نامٍ فى فخ الأزمات المالية (حتى لو كان نمرا صناعيا من النمور الآسيوية)، مع ما يتمخض عن ذلك الوقوع من استنزاف كل جهوده التنموية الشاقة. فهل يعى الاقتصاد المصرى هذا الدرس؟!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved