اللاعبون والمتفرجون فى حوض النيل

فهمي هويدي
فهمي هويدي

آخر تحديث: الثلاثاء 27 أبريل 2010 - 10:13 ص بتوقيت القاهرة

 التعامل مع ملف المياه يحتاج إلى تفكير من نوع مغاير، يعيد قراءة المشكلة بأبعادها المختلفة بعيدا عن لغة الانفعال والتهديد التى تحدث بها بعض المسئولين المصريين.

ــ1ــ
ما دعانى للعودة إلى الموضوع مرة ثانية ليس فقط ما يمثله من أهمية حيوية بالنسبة لمصر، ولكن لأننى وقعت خلال الأسبوع الماضى على كم من المعلومات التى تسلط أضواء جديدة على جوانبه المختلفة ــ ووجدت أن النظر إليها من شأنه أن يسمح لنا بالتعامل مع الملف بصورة أكثر عمقا ومسئولية، أدرى أننا نتحدث الآن بعدما حققت السياسة المصرية فشلا نسبيا فى التوصل إلى اتفاق مع دول المصب. الأمر الذى يعد مقدمة لمواجهة لم تكن فى الحسبان، يخشى أن تكون مقدمة لافتتاح حروب المياه فى القرن الواحد والعشرين.

لقد وجدت مثلا أننا أصبحنا طرفا فى مشكلة كبيرة متداولة فى المحافل الدولية، التى لم تتوقف عن مناقشة «حق المياه»، وكان آخرها المنتدى العالمى للمياه الذى عقد فى استنبول فى شهر مارس من العام الماضى «2009»، ذلك أن فى العالم 260 حوضا للمياه تتقاسمها دولتان وأكثر. ويعيش حولها 40٪ من سكان العالم، كما أن هناك مئات من الأحواض الجوفية المشتركة. ومن الأمثلة الصارخة على ذلك أن 14 دولة تتقاسم نهر الدانوب الأوروبى.

و11 دولة تشترك فى كل من نهرى النيل والنيجر. و9 دول تشترك فى الأمازون، وثلاث دول فى نهرى دجلة والفرات، ومثلها لنهر الأردن. وفى أغلب الأحوال فإن أنصبة تلك الدول من المياه يتم التفاهم حولها بصورة ودية وسلمية، إلا أن الأمر لا يخلو من خلافات تنشأ إما عن التوزيع غير العادل أو الخلافات السياسية. وهو الحاصل بين تركيا والعراق، وإسرائيل والمناطق المحتلة. وبين مصر والسودان من ناحية ودول منابع النيل من ناحية ثانية.

فى الوقت ذاته، ثمة 145 معاهدة عالمية حول موضوع المياه، لم تحل الخلافات التى تثور بين أطرافها أو تحسمها تماما، مع ذلك لم يحدث أن كانت المياه وحدها سببا مباشرا للحرب فيما بين الدول، كما يقول رئيس المجلس العالمى للمياه لويك فوشون.

وفى حالة وقوع نزاعات مسلحة بين الدول المعنية فعادة ما تكون هناك عوامل أخرى تحرك تلك النزاعات، فى مقدمتها طبيعة العلاقات السياسية وغياب التعاون بين تلك الدول، إضافة إلى المرارات والرواسب التاريخية، ولا ينسى فى هذا الصدد أن موازين القوة بين الأطراف المختلفة تلعب دورها فى توزيع حصص المياه، والحالة الأشهر فى ذلك تتمثل فى إسرائيل التى تحبس المياه وتنتفع بها على حساب الفلسطينيين أصحاب الأرض، وكانت النتيجة أن متوسط استهلاك الفلسطينى فى الأرض المحتلة أصبح فى حدود 75 لترا يوميا، فى مقابل 300 لتر للإسرائيلى، علما بأن المتوسط العالمى الأدنى مائة لتر. بحسب منظمة الصحة العالمية.

ــ2ــ
لأن اللاعبين كثر فالحاصل فى القارة الأفريقية أكثر تعقيدا مما نتصور. هذه نقطة مركزية فى دراسة تلقيتها من الدكتور السيد فليفل المدير السابق لمعهد الدراسات الأفريقية، اعتبر فيها الموقف المصرى إزاء أفريقيا «مفتقدا إلى الرؤية الإستراتيجية المتماسكة».

وهو يرصد التحركات المناوئة التى يتعين الانتباه إليها سجل الملاحظات التالية:
تتبنى الولايات المتحدة مشروعات إستراتيجية مؤثرة على المصالح المصرية، أخطرها مشروع القرن الأفريقى الكبير. الذى يستهدف تدمير الدرع اليمنى لحوض النيل، وتمزيق السودان بغرض النفاذ منه إلى قلب القارة وأقاليمها المائية للهيمنة على أهم موارد القارة الطبيعية الكفيلة بتوليد طاقة مائية هائلة. وهذا المشروع يشكل قيدا على الحركة المصرية فى مجاليها الحيويين، العالم العربى والقارة الأفريقية.

طرحت الولايات المتحدة كذلك فكرة بعث مشروع استعمارى بريطانى قديم هو اتحاد شرق أفريقيا (كينيا وأوغندا وتنزانيا). وفى التصور الأمريكى فإن ذلك الاتحاد يمكن أن يضم دولة مقترحة فى جنوب السودان، وقد عقد عدة دورات فى السنوات الثلاث الماضية على مستوى القمة.

ومن شأن إقامته أن يتم شق تجمع «كوميسا» وإضعاف دور مصر فيه، وبصفة خاصة إذا انضمت إليه إثيوبيا، وفى حال انفصال جنوب السودان فإن ذلك الاتحاد، سيكون بمثابة شرخ محتمل فى العلاقات العربية الأفريقية، لا يعلم إلا الله تداعياته ومآلاته.

وما لم تقم مصر باختراق كبير، فإن علاقة مصر والسودان معه ستشهد توترات عدة. وفى ظل احتمال انضمام إثيوبيا إليه، وإزاء غياب الدولة الصومالية فإن أزمة مياه النيل والعلاقة مع دول الحوض ستصبح أزمة أفريقية أفريقية وأفريقية عربية فى ذات الوقت.

تبنت الولايات المتحدة كذلك مشروع خليج غينيا، وهو يرمى إلى حصد البترول المكتشف مؤخرا فى دول غربى أفريقيا ووسطها، وتستهدف الولايات المتحدة من خلاله أن توفر فى عام 2015 نحو ربع احتياجاتها من النفط من هذه المنطقة، خاصة نيجيريا وتشاد والسنغال وأنجولا، وهى لم تكتف بذلك، بل استخدمت تلك الدول ركيزة للتدخل فى جوارها وبعض تطورات أزمة دارفور يمكن قراءتها فى إطار هذا المشروع.

نتيجة لهذه المشروعات الأمريكية صار السودان عرضة للاختطاف والتناوش والنهش من الشرق (فى إطار مشروع الشرق الأوسط) ومن الغرب (فى إطار مشروع خليج غينيا) ومن الجنوب (فى إطار مشروع اتحاد شرق أفريقيا)، بل وصار عرضة للتقسيم الكامل فى إطار مشروع القرن الأفريقى الكبير، وهو ما يهدد مصالح مصر الثابتة فى مياه النيل بمخاطر شتى.

إذا أضفنا لذلك كله ذلكم المشروع الوليد للقيادة العسكرية الأمريكية لأفريقيا «أفريكوم» لأدركنا أن هذه المشاريع الأمريكية ليست برامج تنموية طوباوية تحدث فى فراغ إستراتيجى،

بل يظاهرها تجييش للجيوش وحشد للقوى، وربما نشهد يوما تكون فيه جيوش الدول الأفريقية التى لا تتوقف زيارات المسئولين الأمريكيين لها (السنغال ونيجيريا وغانا فى غربى القارة وجنوب أفريقيا فى جنوبيها، وكينيا وأوغندا وإثيوبيا فى شرقيها) تدخل فى إطار المشروعات الأمريكية، على نحو ما حدث من تدخل إثيوبيا فى الصومال، وقيادة أوغندا للقوات الأفريقية هناك. الأمر الذى يعنى أننا بصدد برامج خطيرة تهدد أمن مصر القومى، لا تمس مصالحها فحسب، ولكنها تتجاهل أنها موجودة أصلا.

ــ3ــ
فى الوقت الراهن، ومن الناحية العملية، لا مفر من الاعتراف بأن موقف مصر ضعيف، لا لأنها لا تملك أوراقا، ولكن لأنها لم تستخدم أوراقها وتجاهلتها طويلا، ولكى تدافع مصر عن حقوقها فمطلوب منها بذل جهد مضاعف، لسبب جوهرى هو أن الساحة الأفريقية أصبحت تكتظ باللاعبين الوافدين إليها من كل صوب، فإلى جانب الولايات المتحدة وإسرائيل، ثمة حضور مشهود للصين وفرنسا وألمانيا واليابان والهند وإيران وصولا إلى ماليزيا.

وفى حدود علمى فإن تركيا بدورها أصبحت تتطلع للنفاذ إلى الأسواق الأفريقية، حتى إنها قامت بتعيين أحد أهم رجال الأعمال سفيرا لها فى نيروبى، ولابد أن يلفت نظرنا فى هذا السياق أن المنظمات الأهلية التركية أصبحت تمارس نشاطا ثقافيا واسعا فى مختلف دول القارة، بحيث لم تعد هناك دولة أفريقية إلا وأقيمت فيها مدرسة تركية على الأقل.

لقد تلقيت رسالة بخصوص إمكانيات الدور المصرى من الدكتور جمال عبدالسلام المدير السابق للجنة الإغاثة باتحاد الأطباء العرب طرح فيها سؤالين هما: لماذا لا تستحدث مصر وزارة لشئون أفريقيا، كما سبق أن خصص الرئيس عبدالناصر وزارة للسد العالى (عين لها المهندس صدقى سليمان وزيرا)؟

ــ السؤال الثانى هو: لماذا لا تستعين الجهود الحكومية فى ترميم ومد الجسور مع الدول الأفريقية بالمنظمات الأهلية ذات الخبرة العريضة فى مختلف مجالات الخدمات، وفى مقدمة تلك المنظمات جمعية الهلال الأحمر ولجان الإغاثة بالجمعية الشرعية ونقابة الأطباء المصرية واتحاد الأطباء العرب.

يذكرنا الدكتور جمال عبدالسلام بأن العالم العربى ومصر خاصة أقرب إلى أفريقيا من كل تلك البلدان التى تقاطرت عليها، وأن مدرسة واحدة أقامتها الكويت فى جوبا، جعلت شعب جنوب السودان يخرج فى مظاهرات صاخبة احتجاجا على غزو العراق للكويت، فى حين أن الموقف فى الشمال كان ملتبسا، كما أن إقامة مدرسة جمال عبدالناصر فى مقديشيو والبعثة الأزهرية التى تم إيفادها إلى الصومال «كانت الأكبر فى القارة الأفريقية» أحدثتا تغييرات جوهرية فى أجواء البلاد، لمسها الوفد الإغاثى الذى أرسلته الجامعة العربية إلى هناك فى بداية التسعينيات.

من ناحية أخرى فإن الأنشطة التى قامت بها القوافل الإغاثية العلاجية ولجان مكافحة العمى فى بعض الدول الأفريقية كانت لها أصداؤها الإيجابية القوية، حين زارت جيبوتى والصومال وتشاد والنيجر.

ــ4ــ
حتى تأخذ المصارحة مداها، يتعين علينا فى النهاية أن نسجل عدة أمور أحسبها ضرورية لانتقال مصر من موقف المتفرج إلى اللاعب فى ساحة حوض النيل، هذه الأمور هى:
1ــ إن الفشل النسبى للمفاوضات مع دول الحوض وثيق الصلة بتراجع الدور المصرى وغياب إستراتيجية واضحة للتعامل مع العالم الخارجى، فالعلاقة مع دول حوض النيل مثلا، لا تنفصل عن العلاقة مع دول منطقة القرن الأفريقى، بل مع محيط دول الاتحاد الأفريقى.

2ــ إن مصر لم تتصرف حتى الآن باعتبارها جزءا من أفريقيا، وأعطت انطباعا بأنها ضيف عليها ومضطر إليها. وذلك وضع يحتاج إلى تصحيح بحيث تنضم الهوية الأفريقية إلى مفردات الهوية الأخرى للإقليم، المصرية والعربية والإسلامية والمتوسطية.. إلخ.

ورغم أن بعض المسئولين المصريين دأبوا على الحديث عن تضحيات مصر من أجل أفريقيا (فى أزمنة سابقة) إلا أن الأفارقة لم يجدوا ما يبرهن على ذلك فى زماننا. ولك أن تقدر مشاعرهم مثلا عندما يجدون أن مصر أعادت الحياة إلى شبكة كهرباء لبنان مرة واثنتين إثر العدوان الإسرائيلى، فى حين لا يجدون أثرا يذكر لدورها التنموى فى بلادهم.

3ــ حين نتحدث عن دور العوامل أو الدسائس الخارجية التى باعدت بين مصر وبين دول الحوض، فينبغى ألا يمنعنا ذلك من تفهم مشاعر الأفارقة إزاء مصر. ذلك أن منهم من يلمس استعلاء مصريا غير مبرر فى التعامل معهم.. ومنهم من لا يستطيع أن يتحلل من مشاعر الاستياء والحساسية حين يجدون أن مياه النهر تمر على بلدانهم التى تعانى التخلف والفقر والمرض، لتصل إلى حياضنا لنزرع بها ونروى.

ومن حقهم فى هذه الحالة أن يطالبوا بمردود يمتص مشاعرهم تلك ويرطب من جوانحهم. ولا شك أن الإسهام المصرى فى تنمية تلك المجتمعات وتوفير ما يمكن توفيره من خدمات طبيعية وتعليمية لهم لا يبدد تلك المشاعر فحسب ولكنه أيضا يوفر لمصر نفوذا ناعما يرجح من كفتها فى مثل المواقف الخلافية التى نحن بصددها.

4ــ ثمة انطباع مغلوط يشيع بين بعض النخب فى الدول الأفريقية خصوصا بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد يدعى أن التنسيق قائم بين مصر والولايات المتحدة وإسرائيل فى المشرق العربى والقرن الأفريقى وإسرائيل، ولا أعرف علاقة هذه الشائعة بفكرة معسكر «الاعتدال» الذى يروج له فى العالم العربى وتتصدره الدول الثلاث، لكن الذى لا أشك فيه أن هذه السمعة أفقدت الدور المصرى «الغائب» رصيده الوطنى والمستقبل فى القارة.

لأن التحدى كبير، فالجهد المطلوب أيضا كبير، وهو ما يتطلب قرارا سياسيا على أعلى مستوى، يستصحب عزيمة صادقة ونفسا طويلا. وتلك مشكلات عويصة لا أعرف سنحلها فى الأجل المنظور أم لا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved