وقمح..

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 27 أبريل 2019 - 10:00 م بتوقيت القاهرة

منظر القمح في الغيطان أحلى من كل ما رسم كبار فناني القرن التاسع عشر، فان جوخ وكوربيه وغيرهم من الذين مجدوا لحظة الحصاد وجمالها. يبدأ موسم حصاد القمح في أواخر شهر أبريل بالوجه القبلي وأوائل مايو في الوجه البحري. ومن علامات النضج التام للقمح هو اصفرار الجزء الذي يحمل السنبلة، فيظهر كأنه سفاسف الذهب تحت لمعان الشمس في وقت الحصاد، أي قبل الغروب أو في الصباح الباكر حتى لا تنفرط الحبوب.

قبل سنوات كتب زياد الرحباني مقطوعة موسيقية بعنوان "وقمح" نتخيل معها حركة السنابل الذهبية في الحقول، يهدهدها النسيم وصوت فيروز يتماهى مع حركتها والموسيقى، دون كلمات، فقط الصوت يروح ويجيء. ومن قبلها بكثير غنى عبد الوهاب "القمح الليلة ليلة عيده، يا رب يبارك ويزيده"، فهو رمز الرخاء على مر العصور. نضعه على باب المنزل ليجلب الخير، أما الأحد الماضي فقد تنوعت تشكيلاته يوم أحد السعف أو أحد الشعانين، اليوم السابع من الصوم الكبير الذي يسبق عيد القيامة، ذكرى دخول المسيح إلى القدس، حين استقبله الناس بالسعف والزيتون المزين، وفرشوا أغصان النخيل تحت قدميه كرمز للنصر والسلام.

***
استعد له الإخوة المسيحيين فجمعوا سنابل القمح وأغصان السعف وضفروها، وكأنهم رددوا مع الشاعر محمود درويش "إنا نحب الورد، لكنا نحب القمح أكثر، ونحب عطر الورد لكن السنابل منه أطهر...". لم نعد نرى القمح يزين مداخل المنازل كثيرا، واختفت عادة غرزه في قليل من الرمل، داخل المزهريات بغرض الزينة، كما في بيوت الجدات قديما. وهو المشهد نفسه الذي نلاحظه في المتحف الزراعي بالدقي حيث نكتشف أيضا "عروسة الحصاد" التي كان يصنعها الفلاح المصري القديم من القمح في مثل هذا الموسم. نجد في المتحف حبوب القمح التي تعدى عمرها ستة آلاف سنة، إذ زرع الفراعنة القمح والشعير على ضفاف النيل، ثم أدخلوا العنب للأراضي المصرية حوالي سنة 3000 قبل الميلاد، والزيتون في نهاية الدولة الوسطى، ولم يعرفوا الأرز إلا بعد الفتح العربي.

حمل القمح اسم " كاموت" أو روح الأرض، ويقال أيضا إنه سمي كذلك نسبة إلى "كمت" أو مصر بالهيروغليفية، حباته كانت أغمق وأطول مرتين تقريبا من القمح العادي، وهو صنف صلب، غزير الإنتاج، غني جدا بالبروتينات والمعادن الأساسية. عرف أيضا حول العالم بقمح خوراسان أو قمح الملك توت أو قمح المومياء أو قمح أوزيريس أو قمح المعجزة، وتتردد الحكايات حول انتشاره في بقاع مختلفة من العالم من خلال التجارب التي أجراها عليه بعض علماء الغرب منذ القرن التاسع عشر، أخذوا حبات من القمح المخزن مع ملوك وملكات مصر داخل مقابرهم واستطاعوا إنباتها من جديد.

***
حينما اختفى القمح من مزهريات البيوت كان ذلك دليلا على تراجعنا زراعيا. لم يعد القمح جزءً لا يتجزأ من حياتنا اليومية، بل صارت مصر على رأس قائمة الدول المستوردة للقمح بعد إندونيسيا وتليهما الجزائر، في حين كانت صومعة غلال المتوسط.

بدأت مصر في استيراده سنة 1951 تقريبا، لتغطية احتياجات القوات البريطانية. وبعد ثورة 1952، ارتفع استهلاكنا من القمح، حين اتخذت الحكومة قرارا بدعم الخبز المصنوع من القمح، بعد أن كان الناس يعتمدون على الذرة بشكل أساسي في صنع الخبز، أو خليط الذرة والقمح، وهو ما اتجهت إليه الدولة مؤخرا لتقليل نسبة الاستيراد، خاصة بعد أن تمكنت من تحقيق الاكتفاء الذاتي من محصول الذرة.

تلح على أذني مقطوعة زياد الرحباني وصورة السنابل الذهبية في حقول الفيوم وهي تهتز يمينا وشمالا مع الريح. لا شيء يشبهها، ولا شيء يشبه صوت فيروز. ولا شيء يشبه إحساس الشبع والاكتفاء الذاتي.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved