الخلافة العباسية: من بيت الحكمة إلى ثورة الأقباط!

أحمد عبدربه
أحمد عبدربه

آخر تحديث: السبت 27 أبريل 2019 - 9:55 م بتوقيت القاهرة

بعد أن احتاج الخليفة السفاح إلى أربع سنوات لتأسيس الخلافة العباسية، احتاج الخليفة المنصور إلى عشرين عاما كى يرتب البلاط العباسى من الداخل ويؤسس قواعد الحكم العباسى الذى استمر لقرون طويلة من بعده. احتاجت الدولة العباسية إذن إلى ربع قرن من الزمان كى تتأسس وتستقر وفى سبيل ذلك سالت الدماء وقٌطعت الرقاب، ثم احتاجت إلى ستة عقود أخرى كى تبدأ فى الازدهار والتعملق لتؤسس الوجه الحضارى للإسلام، وهو الوجه الذى لم يشهد المسلمون عبر الزمان تقدما وحداثة مثله أبدا حتى انهارت الخلافة العثمانية فى الربع الأول من القرن الماضى. يمكن القول إن الإسلام قد تحول فى هذا العهد من مرحلة البداوة الاجتماعية والثقافية إلى مرحلة الحضارة والتنوير والتمدن. صحيح أن هذا الانتقال كان قد بدأ منذ العهد الأموى، لكن الانتقال لم يكتمل سوى فى هذه الفترة الذهبية للدولة الإسلامية.

أسس لهذه الحقبة أربعة خلفاء عباسيين، الخليفة المهدى (٧٧٥ــ٧٨٦م)، ثم الخليفة الأشهر هارون الرشيد (٧٨٧ــ٨٠٩م)، ثم ابناه الخليفة الأمين (٨٠٩ــ٨١٤ م) والخليفة المأمون (٨١٤ــ٨٣٣).

***
استمر المهدى فى الحكم ما يزيد قليلا على عقد من الزمان ولكنها كانت فترة كافية له كى يواصل توسعة الدولة الإسلامية، حاول هزيمة الخلافة الأموية فى الأندلس لكنه لم ينجح، فاتجه شرقا وتمكن من مد حدود الدولة الإسلامية إلى شمال إيران ثم واصل التوسع جنوب شرق حتى وصل إلى الحدود الشمالية لشبه القارة الهندية. عُرف عنه الزهد والبساطة (على عكس معظم خلفاء الدولة العباسية)، كما عُرف عنه البراعة فى استمالة غير العرب (وهو المولود فى بلاد الفرس)، فحصل الشيعة والفرس والبرامكة وغيرهم على امتيازات فى عهده، لكنه مات مسموما على الأرجح، ليتولى هارون الرشيد قيادة الدولة العباسية.

عُرف عن هارون الرشيد الغرق فى التمتع بملذات الحياة، فبحسب معظم المصادر التاريخية المتاحة (العربية والغربية)، فقد كان مولعا بالنساء والخمر، وكذلك فقد بنيت حكايات ألف ليلة وليلة على قصته ونزاوته وأساطيره، إلا إننا لو تركنا الجانب الشخصى فى حياته وقيمناه من الناحية السياسية فهو واحد من أبرع الخلفاء المسلمين وأكثرهم تفتحا وتفهما لقيم التعددية والتمثيل السياسى وهى كلها مفاهيم لم تكن معروفة كثيرا فى عصر الإمبراطوريات وقتها!

أسس الرشيد الوجه الحضارى للإسلام، فقد فهم الإسلام ليس فقط باعتباره دينا وطقوسا تؤسس لشرعية الحكم والتوسع على حساب الشعوب الأخرى، وليس باعتباره أداة قوة لإخضاع وأسلمة الشعوب غير المسلمة، ولكنه فهم الإسلام باعتباره مظلة حضارية تؤسس لقيم وفنون وعلوم تتسع لاستيعاب المسلمين وغير المسلمين. من هنا تمكن هارون الرشيد من اتباع دبلوماسية إقليمية ودولية سلمية، تمكن خلالها من عقد اتفاقية سلام وتبادل للبعثات الدبلوماسية مع ملك الروم «كارل الكبير» والذى عاصر حكم الرشيد، كذلك فقد عقد الأخير اتفاقية مع الأول تحمى مصالح الدولة العباسية فى إسبانيا، فى مقابل تعهد الدولة العباسية بحماية مصالح كارل الكبير فى شرق المتوسط. كذلك فقد تعهد هارون الرشيد بحماية طريق الحجاج المسيحيين إلى القدس، كما وصل التنسيق أيضا إلى حد ترجمة الإنجيل من اللاتينية إلى العربية، وقد شهد تأسيس بيت الحكمة فى بغداد تقديم منبر حضارى وسطى يقوده الخليفة فى بغداد للتآلف والتحاور الثقافى والحضارى بين المسلمين والمسيحيين واليهود والذى حرص الرشيد أيضا على عقد معاهدات السلام معهم والتنسيق مع المملكة الخزرية (اليهودية) لتأمين الطرق التجارية بين الشرق والغرب والتى ربطت بين البلاد الإسكندنافية فى الغرب والصين فى أقصى الشرق!

لم يهتم هارون الرشيد بتوسعة الإمبراطورية الإسلامية جغرافيا بقدر تعميقها ثقافيا وحضاريا، كذلك فقد عزز هارون تمثيل الأقليات المسيحية واليهودية والفارسية فى بلاط الحكم وفى القيام بالمهام الاقتصادية والثقافية وهو الأمر الذى سار على دربه فيه ابنه المأمون. بينما كان الرشيد فى آخر أيامه، فقد قرر تولية ابنه المأمون من بعده ولكن المحيطين بهارون الرشيد لم يرضوا كثيرا عن هذا الاختيار كون أن أم المأمون فارسية على عكس أم أخوه الأمين والتى كانت تنحدر من العائلة العباسية، وهكذا طفت على السطح النعرة القومية مرة أخرى، تولى الأمين الخلافة فى النهاية ولكن شهد عهده حروبا متواصلة مع أخوه المأمون وهو صراع على الحكم بصبغة قومية حيث تزعم المأمون الفرس، بينما ارتكن الخليفة الأمين إلى العرب، خمس سنوات من الحروب المتواصلة بين الأخوين حتى تمكن المأمون من الوصول إلى بغداد ومحاصرتها حتى بدأ أهلها فى المعاناة من المجاعات فلم يجد الخليفة الأمين بدا من الهرب ولكن أسره جيش المأمون وقتله لاحقا، ليتولى المأمون الخلافة على دماء أخيه.

***
فور تولى المأمون السلطة بدأ فى لم شمل الدولة العباسية مرة أخرى بعد أن ضعفت بفعل الحرب الأهلية مع أخيه الأمين، كما أعاد إلى بيت الحكمة رونقه ونشاطه الثقافى مرة أخرى. فقد أصبح بيت الحكمة فى عهده منارة للثقافة والعلوم، اهتم المأمون بتشجيع العلماء والفلاسفة والمؤرخين، وقد أولى اهتماما خاصا بالشباب والذين تمكنوا فى عهده من تحقيق نهضة علمية وثقافية غير مسبوقة فى تاريخ الخلافة الإسلامية، ترجمة كتابات الفلاسفة اليونانيين، وتطوير علم الفضاء وترجمة الكتب الدينية والفلسفية والعلمية عن اللاتينية واليونانية إلى العربية، وإعادة قراءة تاريخ العالم (وليس فقط تاريخ المسلمين) كانت بعض من إنجازات علماء الخليفة المأمون. أصبح للدولة الإسلامية نخبة ثقافية وعلمية صلبة حققت نهضة علمية ذاع صيتها فى العالم القديم. نهضة لا علاقة لها «بالعودة إلى الله» كما افترض خطاب الصحوة الإسلامية فى الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضى، ولكن له علاقة بالاهتمام بالعلم والأخذ بأسباب التقدم والتعلم من الحضارات الأخرى، فضلا عن أن تلك النهضة العلمية شارك فيها المسيحيون كما المسلمون فقد كان عدد كبير من علماء ذلك العصر من المسيحيين العرب وغير العرب.

لم يسلم عهد المأمون من القلاقل، فواجه انتفاضات شعبية شيعية وفارسية بعد أن بدأ فى إبعادهم عن بلاط الحكم رغم مساعدتهم له فى الصراع مع الأمين وإعادة الاعتبار للعرب وللأسرة العباسية بعد أن عاداهم وحاربهم على خلفية صراعه على الخلافة، كان تقريب العرب والعباسيين مهما فقد كان عليه إعادة تنظيم البلاط العباسى بعد أن قاد عمه (أبو إسحاق) تمردا عليه وأعلن الأخير نفسه خليفة فى بغداد وبايعه بعض أفراد الأسرة العباسية، إلا أن المأمون سرعان ما أعاد السيطرة على مقاليد الأمور.

***
كان التحدى الأعنف الذى واجهه الخليفة المأمون هو الانتفاضات المتتالية التى قادها أقباط مصر وخصوصا فى منطقة الدلتا (عرفت باسم ثورة البشموريين) اعتراضا على سياسات والى مصر فى عهد المأمون والتى ميزت ضدهم وعمدت إلى فرض ضرائب إضافية فقط لكونهم أقباطا وإساءة معاملتهم. بعث المأمون جيشا من بغداد إلى مصر لإخماد ثورة الأقباط وارتكب الجيش العديد من المذابح بحقهم مع إرغام بعضهم على التحول من المسيحية إلى الإسلام، بينما تحول آخرون إلى الإسلام لتفادى دفع الجزية التى أصبحت مجحفة فى عهد المأمون، ورغم ذلك، فلم يستسلم الأقباط واستمروا فى الانتفاضات حتى لو كلفهم ذلك حياتهم، بل وامتدت الانتفاضة القبطية من الدلتا إلى الوجه القبلى، فلم يجد المأمون بدا من الذهاب إلى مصر بنفسه ليقف على الظلم الذى تعرض له الأقباط على يد والى مصر، ليقرر عزل الوالى (عيسى ابن منصور) فورا وهو ما مكنه بالفعل من السيطرة على الانتفاضات القبطية بعد أن استعان بالعديد من قادة الأقباط لتهدئة الثورة، لكن بعد فترة قصيرة عادت الانتفاضات القبطية مرة أخرى ليقرر المأمون قبل مغادرة مصر استعمال القوة مرة أخرى وفى ذلك فقد سجن الكثيرين من الأقباط الذين ظلوا فى سجون الدولة العباسية حتى أفرج عنهم الخليفة المعتصم الذى تولى خلفا للمأمون الذى توفى بعد إخماد ثورة الأقباط بفترة قصيرة ليبدأ عهد عباسى جديد أتناوله فى المقالة القادمة.

ملحوظة: بالإضافة إلى المصادر المذكورة سابقا، فقد استعان الكاتب فى هذه المقالة بأجزاء من كتاب «فى التاريخ العباسى والأندلسى» الصفحات من ٨٠ إلى ١١٥ لأستاذ التاريخ الإسلامى فى جامعتى الإسكندرية وبيروت العربية أحمد مختار العبادى، والصادر عن دار النهضة العربية فى بيروت عام ١٩٧٢.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved