هل ستتغير فلسفة التنمية؟

يوسف الحسن
يوسف الحسن

آخر تحديث: الإثنين 27 أبريل 2020 - 10:30 م بتوقيت القاهرة

فى صباح اليوم العاشر من إبريل من عام الـ«كورونا»، استيقظت متأخرا، كنت أمضيت ليلة مضطربة، أفكر فى ارتفاع منسوب الخوف البشرى فى العالم، جراء تفشى هذه الجائحة الشرسة.
تناولت فطورى متثاقلا، وتفقدت شاشة «التليفون الجوال» المغمورة بـ«الصباحات» و«جمعة طيبة»، ونوادر ظريفة، وتعليقات تحتاج إلى مجهود لفرز ما فيها من لغط، وأسئلة كثيرة تبحث عن حقيقة علمية أو تاريخية.
افتقدت بشدة قراءة «الجريدة الورقية»، وأتردد كثيرا قبل تناول «آيباد» لمطالعة عجولة لصحف عديدة، ومقالات متنوعة.
أعبر إلى مكتبتى، وأشعر بحاجتى أن أكتب عما يخالجنى من أفكار ومشاعر. إن الجلوس للقلم والورقة يعنى تركيزا وعيشا للأفكار عقلا وعاطفة ومسئولية، وأستعين بصوت فيروز فينطلق متموجا داخل المكان، لعله يُلوِّن بداية النهار، ويوقظ أغوار الروح، ويبعث الأمل فى النفس ويلهمها الرجاء بزوال الغمة الراهنة.
أتناول فنجان القهوة، من يد «أم البنين» وأسمعها تهمس قائلة «عمَّر الله قلوبنا بالصبر الجميل»، وتبتهل للخالق المدبر، وأسرح بنظرى عبر شرفة المكتبة، ولسان حالى يهمس، «يا غمامة غيبى عنَّا، وعن هذا الكوكب، دعينا نتمتع بشمس هذا الربيع». وتلهج ألسنتنا بالدعاء عند اقتراب موعد صلاة الجمعة. وكم أشتاق لتلك اللحظات، وخاصة عندما كان حفيدى الصغير يطير سعادة حينما يرافقنى فى أداء هذه الصلاة فى المسجد.
تتمازج الصور والأصوات، وزقزقة فيروز الصباحية، لا ينافسها سوى زقزقة عصافير تهبط بحرية على شجرة الليمون فى حديقة البيت، وقطة تتسلل من فوق سور المنزل، لتشرب من مياه نافورة ماء صامتة فى الحديقة.
سورة «الحمد» لا تغادر الشفتين صباح مساء، نكررها معا، حفظها أحفاد، أكبرهم لا يتجاوز سنواته العشر، ويرددونها عن بعد، عبر شاشة الفيديو فى الأسابيع الثلاثة الأخيرة.
تغمرنى الرغبة أن أعود إلى «دفتر السيرة الذاتية، وذاكرة الأمكنة، لكن أنّى لى ذلك والكل مثقل بالحاضر، وبهذا العام الصعب».
كما فى الأساطير، تُغلق المدن فى معظم أرجاء العالم بوابات أسوارها عند الغروب، ما عدا أبواب مخيمات اللجوء، حيث الهاربون إلى أوهام الأمان، ممن بعثرتهم دروب الرغيف، فى مياه «المتوسط» وجزر اليونان، ومخيمات الوجع فى غربة الأمكنة وقسوة الظروف والأحوال.
يتساوى الإنسان فى عام «كورونا» فى وضعية العزل الإجبارى، لكن بعضنا فى عزلة ذات نوافذ، وبعضنا الآخر فى عزلة كلها جدران.
فى إطلالتى اليومية من شرفة الدار، تبدو أطراف «المجمع السكنى» ملمومة ومتضامنة وملتزمة بالإجراءات الصحية المفروضة، لكن «الممشى» الذى أحببته فى «المجمع السكنى» تأكله الوحدة، لعله اشتاق لـ«مشاوير» صبية مليحة تقود كلبها المدلل فى الهواء الطلق، وشاب يهرول راكضا كالرمح، وشيخ كبير السن يمشى وزوجته الهوينى، وشابة تنقر على «موبايلها» مبتسمة.
قلت لحفيدتى الصغيرة، صاحبة الأسئلة الصعبة، وهى تبدى توقها الشديد لقضاء يوم فى منزل جدها: «قريبا يا غاليتى ستزول الغمَّة» وحينها تستعيد الأرض رونقها وابتسامتها. وقاطعتنى وكأنها تعلم كل شىء قائلة: «لا تخشى شيئا يا جدى».
هو جيل لا يعرف الخوف، يُسرج أحصنة المدى، ليصل أطراف العالم فى حقول عيونه أملا ووردا وإرادة على صناعة الحلم وعمران الحياة.
فى المساء، تلوح لى من بعيد، أضواء قباب الجامع الكبير، وأسراب حمام تعبر فوق جسر المقطع وتبشر بغدٍ أكثر رفقا بصحة الإنسان والبيئة.
تدور الحوارات على خط الـ«واتس أب» بين أصدقاء ومعارف، ونتبادل أسئلة الحياة والعلم والشعر والسماء، ونواجه سطوة العزلة الإجبارية الاحترازية بالسخرية والهذر، لعلنا ننشط الذهن، ونعِّدل النفس لئلا يلحقها كلالُ الجد والضجر، ونحرك العقل بالتفكير والذهن بالإبداع والتدبير، وحسن إدارة هذا العام الصعب.
شاركت أصدقاء كثرا فى الإمارات ومصر والكويت ولبنان والأردن، حوارا عن بعد، وعبر الرسائل الإلكترونية، حول «عالم ما بعد كورونا» وهل ستتغير الدنيا، وتنقلب رأسا على عقب، أم أن التغيير، وفقا لتجارب التاريخ، سيكون بطيئا؟ وحجة أصحاب هذا الرأى أن العالم شهد أوبئة متوحشة عبر العصور، وثورات تكنولوجية وصناعية هائلة وأزمات كساد وقحطا وحروبا قاسية، وتركت ضحايا بشرية بعشرات الملايين، ودُمّرت مدن وبنى تحتية وسُمِّمت تربة ولوثت بيئة، لكن، ورغم ذلك، لم تنقلب الدنيا رأسا على عقب.
قال صديق صاحب خبرة ومسئولية فى إدارة الشأن العام: يكفى البشرية تغييرا، لو نجحت فى تغيير فلسفة التنمية فى العالم، لضمان الأمن الإنسانى الشامل، الذى «يطعمهم من جوع، ويأمنهم من خوف»، بمعنى حق الإنسان فى حياة آمنة صحية، تجعله فى مأمن من كل الغوائل المادية والمعنوية، بما فيها توفير الغذاء الصحى المستدام والأمن الذاتى والجماعى، ماءً وغذاءً ودواءً ورعاية وكرامة إنسانية... لكفى.
أما شقلبات النظام الدولى وتقلباته، فستبقى طالما الحياة فى هذا الكون باقية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved