سونيا والهند

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 27 مايو 2009 - 5:36 م بتوقيت القاهرة

 تتصرف الشعوب فى أوقات الأزمات تصرفات أغلبها لا يتوقعه السياسيون، ويندهش له علماء الاجتماع والسياسة. كثيرون فى أنحاء شتى انتظروا بشغف تطورات الانتخابات البرلمانية الهندية ونتائجها، ليس فقط لأن الهند «أكبر» الديمقراطيات وواحدة من أقدمها، كما يتردد دائما، ولكن لأن هذه الانتخابات تحديدا تجرى فى ظروف أزمة مالية ألقت إلى الشوارع بملايين العاطلين وأغلقت مشروعات تجارية كبيرة وأوقفت استثمارات أجنبية ضخمة، لذلك كان منطقيا أن تحظى انتخابات تجرى فى ظل هذه الأوضاع بالاهتمام وبخاصة من جانب الذين توقعوا سلوكا مختلفا عن المألوف من الناخبين الهنود وتطورات مثيرة فى الساحات السياسة والدينية والاجتماعية فى الهند.

وبالفعل أذهلت النتائج جموع المراقبين والمهتمين وأعرف عن مصدر ثقة أنها حظيت باهتمام أفراد فى الطبقة السياسية المصرية يتابعون أحيانا ما يجرى فى الخارج. هؤلاء أذهلهم أن الناخبين الهنود (المعروف أن عددا ممن شارك فى عمليات التصويت كان كبيرا بمعيار أو حساب المشاركة السياسية فى دول العالم النامى إذ بلغ حوالى 417 مليون صوت)، أعربوا بأصواتهم عن احتجاجهم وعدم رضاهم على السياسة الاقتصادية المستندة إلى مبادئ حرية السوق بدليل أنهم صوتوا بنسبة لم يتوقعها أحد إلى مرشحى حزب المؤتمر الذين التزموا خلال الحملة الانتخابية حماية الفقراء والمحافظة على القطاع العام والاستمرار فى دعم المواد الغذائية الضرورية وتقديم المعونات النقدية والخدمات الاجتماعية ومحاكمة الفاسدين.

أذهلهم أيضا هذا التوجه العام من جانب الغالبية العظمى من الناخبين نحو التهدئة والتسامح الدينى والطائفى والاجتماعى، ورفض الحلول والشعارات والبرامج التى عرضتها الأحزاب والتيارات المتطرفة وروجت لها على طول الحملة الانتخابية، بمعنى آخر قال أكثر من 300 مليون ناخب هندى كلمتهم وكانت فى صف الأخذ بالحلول العملية ورفض الحلول الأيديولوجية، دينية الأساس كانت أم علمانية.

هل يعنى هذا أنه فى حالات الأزمة يختار الناس الحلول الهادئة ويخشون كل ما من شأنه أن يؤدى إلى انفراط عرى المجتمع كالفتنة بين الطوائف أو المذاهب ويرفضون الانقلابات الانتخابية فى السياسات الاقتصادية؟.. أم أن حالة الهند فريدة بالنظر إلى أن الخبراء يتوقعون دائما فى أوقات الأزمات زيادة فى تطرف ميول الناخبين وتوتر أعصابهم وتدهور علاقات الثقة بين أبناء الأمة وبين جماعاتها وأجيالها واتساع الفجوة بين السلطة ورموزها من جهة وجموع الرأى العام من جهة أخرى؟، مازال عدد التجارب أقل مما يسمح لنا بالتنبؤ بسلوكيات مختلف الأمم فى ظل الأزمة الاقتصادية ــ المالية الراهنة، نعرف أن الأمريكيين انتخبوا باراك أوباما فى أوج الأزمة ليستعيدوا سلاما مع النفس فقدوه فى عهدى بوش ويسترجعوا ثقة فى الرأسمالية كعقيدة كانت راسخة ثم اهتزت بشدة خلال أسابيع الأزمة التى سبقت يوم الانتخابات ورافقته واستمرت من بعده.

نعرف أيضا أن انتخابات جرت فى الإكوادور وفنزويلا وفى أكثر من دولة فى أوروبا الشرقية أكدت رغبة الناخبين فى استعادة بعض ضمانات التزمت بها عهود الرعاية الاجتماعية والصحية ورغبتهم استعادة هيمنة الدولة على الخطوط العريضة للاقتصاد وإخضاع طبقة المضاربين ومخربى الاقتصاد الوطنى لسيادة الشعب ولحكم القانون وضبط سلوكياتها السياسية والاجتماعية.

وفى كل الحالات، على قلتها وباستثناء حالة واحدة، تأكدت أيضا رغبة الناخبين فى اختيار قيادات حاكمة تلتزم الاعتدال والتهدئة والتسامح وتشجيع الثقة، أما الاستثناء الوحيد فكان سلوك الناخب الإسرائيلى. هذا الناخب وبرغم الأزمة المالية وبرغم بيئة عالمية تحبذ التهدئة وبيئة إقليمية مستسلمة للتهدئة، اختار من الطبقة الحاكمة أشد أعضائها تعصبا وتطرفا ورغبة فى شن حروب إقليمية وعالمية جديدة لفائدة الكيان الصهيونى مؤكدا استمرار حالة عنصرية وعدوانية تهيمن على سلوك الإسرائيليين منذ حلوا بفلسطين ساعين إلى استعمارها وتهجير شعبها والتحكم فى إرادات الحكومات العربية.

وعلى كل حال، تبقى الهند فى نظر البعض نموذجا قابلا للمحاكاة، وفى نظر آخرين حالة فريدة، أما أنا، فرأيتها ومازلت أراها، معمل تجارب جربت فيه الحضارات قدرتها على الخلق والإبداع وجربت فى الوقت نفسه صداماتها أيضا، وجربت فيه الأديان صلاحيتها للتأقلم والانتشار والصمود، والانحسار أيضا. وجربت فيه القوى الاستعمارية أساليب خداعها واستبدادها وأدوات إخضاع الشعوب واستنزاف ثرواتها، فمن الهند انطلقت هذه القوى تنفذ خلاصة تجاربها فى الهند فى بقية أنحاء آسيا ثم فى أفريقيا. كذلك كانت الهند على مر العصور بوتقة صهر لإيجابيات جميع الغزوات الخارجية وسلبياتها وجميع العقائد والإيديولوجيات وعديد هجرات الأجناس والشعوب، جميعها تأقلم أو تأقلمت الهند معه.

فى هذا الإطار يمكن فهم وتقدير مراحل تطور العلاقة بين السيدة التى أدارت حملة الانتخابات وبين الهند وشعبها والطبقة السياسية فيها. ولدت سونيا ماينو، المعروفة فى الهند بالمدام، فى قرية على أطراف مدينة فيشنيسا بشمال شرق إيطاليا عن أب يعمل بالمقاولات وتلقت تعليمها بمدارس مدينة تورينو بإقليم لومباردى بأقصى الشمال الإيطالى وأرسلها والدها إلى مدرسة فى مدينة كامبردج بإنجلترا لتتقن اللغة الإنجليزية فيها. وفى هذه المدينة التى يتلقى العلم فى جامعتها أبناء وبنات الطبقات الحاكمة فى عديد الدول التقت الفتاة الإيطالية براجيف غاندى، الإبن الأكبر للسيدة أنديرا غاندى رئيسة وزراء الهند،و كان حبا جارفا وزواجا كارثيا.

تولى راجيف رئاسة الحكومة فسقطت به الطائرة، وبعد مقتله يقوم متطرف من طائفة السيخ باغتيال انديرا غاندى، وفى لحظة حماسة عاطفية يقرر نواب حزب المؤتمر اختيار سانجاى الابن الأصغر لإنديرا رئيسا للحكومة ليقتله انتحارى من ولاية تاميل نادو أثناء قيامه بجولة انتخابية فى جنوب الهند.

فجأة وجدت سونيا غاندى نفسها وحيدة على رأس أهم عائلة سياسية فى الهند، وكان أمامها خيار أن تأخذ ابنها وابنتها وترحل إلى مسقط رأسها فى إيطاليا، أو تخرج عن عزلتها وتقود حزب المؤتمر. اختارت البقاء وتخلت عن الايطالية لغتها الأم وارتدت الثياب الهندية وجالت تخطب فى الجماهير بالهندية أو الإنجليزية وأن بلكنة أجنبية وزارت المعابد الهندية وغطست فى مياه النهر المقدس وتوقفت عن ممارسة الشعائر الكاثوليكية. دفعها ذكاؤها إلى اختيار مصالح الفقراء هدفا سياسيا وعقيدة فصارت «القائد السياسى» الأقرب إلى قلوب مئات الملايين من الهنود. وعندما فاز حزب المؤتمر فى انتخابات عام 2004، وقع الإجماع على اختيارها رئيسة للوزراء ولكنها فضلت واحدا من أشهر الاقتصاديين لهذا المنصب واحتفظت لنفسها بدور القائد الفعلى للحزب، بل وللهند.

نجحت سونيا فيما فشل فيه الرجال، ففى ظل قيادتها للحزب خلال السنوات الخمسة الماضية استطاعت القفز بحزب المؤتمر من موقع متدنى باستمرار فى مواجهة حزب بهاراتيا جاناتا المتطرف دينيا وقوميا، ومن موقع الحزب المعتمد على أحزاب أقلية كالحزب الشيوعى، إلى موقع القيادة فى النظام السياسى الهندى، ومازال فى جعبتها ليحكم الهند، فى ظلها أو بعدها، ابنها راهول غاندى آخر سلالة عائلة حكمت الهند سبعين عاما.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved