محاولة لتفسير «الربيع العربى»

جلال أمين
جلال أمين

آخر تحديث: الثلاثاء 27 مايو 2014 - 5:20 ص بتوقيت القاهرة

أما وقد حل موعد الانتخابات الرئاسية، وأصبح من الممكن اعتبار «الربيع العربى» قد انتهى بحمد الله، فقد يكون من الملائم الآن استرجاع أحداث الأعوام الثلاثة ونصف العام الماضية، بحثا عن تفسير مقنع لما شهدناه من ظواهر غريبة.

أشياء كثيرة تلفت النظر فى مجرى الأحداث التى أطلق عليها اسم «الربيع العربى». توالى الثورات فى بلد عربى بعد آخر، فى فترة قصيرة من الزمن، رغم اختلاف الظروف الداخلية بين هذه البلاد اختلافا كبيرا: تونس ثم مصر ثم ليبيا واليمن وسوريا. الفشل الواضح فى كل هذه الثورات فى تحقيق الآمال التى علقت عليها. اقتران هذه الثورات جميعا بدرجة عالية من التخريب والدمار، وأعداد مرتفعة وغير مقهورة من القتلى والجرحى، فضلا على ميل قوى للتفرقة والتجزئة والتفتيت، مع تخريب وحرق مبان أثرية مهمة ومتاحف جاءت فى أعقاب أعمال مماثلة جرت فى العراق. اهتمام شديد من الدول العظمى بما يجرى فى هذه البلاد، وهو أمر ليس غريبا فى حد ذاته لولا أن هذا الاهتمام كثيرا ما اتخذ أشكالا غير مألوفة. لم يكن غريبا تأييد روسيا للنظام الحاكم فى سوريا (بالنظر إلى العلاقة الوثيقة والقديمة بينهما)، ولكن تدخل حلف الأطلنطى فى الأحداث الليبية اتخذ صورة بالغة العنف والقسوة. كان ملفتا للنظر أيضا موقف دول الغرب من سقوط الرئيسين المصرى والتونسى، حيث اتخذت هذه الدولة موقفا مؤيدا لإسقاطهما رغم ما كان بينها وبينهما من علاقات حميمية قبل السقوط. كان غريبا أيضا تأييد الولايات المتحدة ودول أوروبية لنظام الإخوان المسلمين فى مصر، وما ظهر من محاولتها الجدية لانقاذه، رغم أن هذه الدول الغربية لم تكن تكف عن التنديد بالإسلام السياسى والتطرف الدينى، ثم استعداد هذه الدول لوصف هذه الجماعة بالإرهاب بعد سقوط حكمها.

هل سبق أن حدث فى مواقف الدول الكبرى ما يمكن أن يلقى ببعض الضوء على هذه الألغاز، وتقدم إجابة مقنعة لها؟ ربما يساعدنا فى ذلك أن نتذكر كيف استخدم الإسلام السياسى والتطرف الدينى بكفاءة عالية لإضعاف الاتحاد السوفييتى منذ ثلاثين عاما وطرده من أفغانستان، وإثارة القلاقل له فى داخله. ثم استمر استخدام حظر التطرف الدينى (الذى كثيرا ما سمى «بالقاعدة») كبديل للحظر الشيوعى، بعد سقوط الاتحاد السوفييتى وزوال الخطر الشيوعى فى آواخر الثمانينيات، فاستخدم اصطلاح «الإرهاب» لتخويف الناس من الداخل والخارج، ولإلصاق التهم به وإلقاء المسئولية عليه فى تنفيذ بعض الأعمال الإرهابية التى قد يكن القائم بها الدول الغربية نفسها لأغراضها الخاصة (أهمها بالطبع تفجير البرجين الشهيرين فى نيويورك فى 11 سبتمبر 2001). ولكن ما الأغراض التى يمكن أن يخدمها قيام ثورات الآن فى بلد عربى بعد آخر؟

•••

تثور فى الذهن عدة احتمالات للتفسير. منها التغير الكبير الذى حدث فى المراكز النسبية من حيث القوة الاقتصادية (ومن ثم العسكرية) لقوى العالم المختلفة، مما يحتاج إلى تغيير خريطة العالم وإعادة توزيع مناطق النفوذ، كما حدث دائما فى أعقاب الحروب الكبيرة، خاصة فى أعقاب الحربين العالميتين الأولى والثانية. وحيث إن الحروب العالمية الآن أصبحت شبه مستحيلة (بسبب تطور الأسلحة النووية وما طرأ على العالم من عولمة، بحيث لا تعرف الولايات المتحدة إذا فكرت فى ضرب الصين مثلا، ما إذا كانت تضرب الاقتصاد الصينى أم الشركات الأمريكية العاملة فى الصين) فقد تكون الحروب الأهلية الصغيرة، فى داخل الدول الصغيرة، كالدول العربية مثلا، بديلا لا بأس به للوصول إلى نفس النتيجة: إعادة توزيع مناطق النفوذ من التفسيرات الممكنة أيضا المطامح الإسرائيلية فى مزيد من إضعاف العرب وإعادة تقسيم دولهم إلى كيانات أصغر (ربما على أسس دينية ومذهبية)، تضع حدا نهائيا لأى تهديد يأتى منها لدولة إسرائيل وتضفى مصداقية ومشروعية على إعلان إسرائيل دولة يهودية.

نعم، هذان تفسيران محتملان ولا يجوز استبعادهما، ولكن أليس من المحتمل أيضا أن يكون لما يحدث فى العالم العربى منذ ثلاث سنوات علاقة وثيقة بالأزمة الاقتصادية والمالية الطاحنة التى يمر بها العالم (خاصة العالم الغربى) منذ أكثر من خمس سنوات؟

يجب ألا نستهين بحجم الأزمة الاقتصادية التى بدأت (أو اتضحت) فى العالم الغربى فى سنة 2008، وانتشرت منها إلى سائر بلاد العالم، ومازالت قائمة حتى الآن. هناك ما يشبه الإجماع على أن هذه الأزمة الأخيرة هى أسوأ أزمة اقتصادية مر بها العالم منذ ثلاثينيات القرن الماضى، ونحن نعرف ما كان لأزمة الثلاثينيات من آثار مدمرة اقتصادية واجتماعية وسياسية وعسكرية. لقد انتشرت البطالة وتوالى إشهار الإفلاس، واشتد ساعد الحركات النازية والفاشية وصعد بعضها إلى الحكم. ساعدت أزمة الثلاثينيات أيضا على قيام الحرب العالمية الثانية، والاقتصاديون يعترفون الآن بأن الذى أخرج الغرب من هذه الأزمة الاقتصادية، لم يكن السياسة الاقتصادية المقترنة باسم الاقتصادى الإنجليزى كينز، والتى طبقها أيضا الرئيس الأمريكى روزفلت، بقدر ما كان قيام الحرب العالمية الثانية.

إن للأسلحة ميزة فريدة هى أنها سريعة الهلاك، وضرورة التفوق فيها على الخصم وإلا فقدت كل قيمتها، ومن ثم لا تنفذ أبدا الحاجة إلى المزيد منها، ومن هنا أصبحت مصدرا رائعا لتحقيق الأرباح. المهم فقط أن تخلق الحاجة إليها، إما بإشعال حرب جديدة أو بتخويف الناس من حرب جديدة. ولكن إذا كانت الحروب العالمية أصبحت بعيدة الاحتمال الآن، فلماذا لا تقوم الحروب المحلية، والاعتداءات محدودة النطاق، هنا وهناك، مقام الحروب العالمية فى تحقيق نفس الهدف؟ ألم نشاهد فى الاعتداء العراقى على الكويت فى سنة 1990، ثم فى الهجوم الأمريكى على العراق فى 2003، كيف هرولت الشركات الغربية العملاقة وراء الجيوش للحصول على عقود لإعادة بناء ما تدمره الحرب؟ فلماذا لا يكون وراء موقف الدول الكبرى من ثورات الربيع العربى أهداف مماثلة، تضاف إلى الأهداف السياسية والاقتصادية التى ذكرتها من قبل؟ أقصد خلق فرص جديدة للربح الوفير بعد أن تضاءلت فرص الربح الوفير والاستثمار المجزى فى داخل هذه الدول الكبرى، وطريقة للخروج من البطالة التى تزداد تفاقما وتنتشر من دولة غربية إلى دولة أخرى؟

لقد سمعنا أثناء ضرب حلف الناتو لليبيا، الذى أدى إلى سقوط حكم القذافى، شكوى روسيا من أنه لا يجوز أن تنفرد الدول الغربية بتقسيم ثروة ليبيا من البترول فيهما بينها، مستبعدة روسيا من الغنيمة. فلماذا لا يكون هذا مجرد مثال مفضوح لأشياء أخرى تجرى فى الخفاء؟ لماذا يتكرر مثلا ذكر المشروع المسمى بـ«بتطوير إقليم قناة السويس» المرة بعد الأخرى، منذ أواخر عصر مبارك وحتى الآن، فلا تملك أى حكومة مصرية من الحكومات التى توالت بعد الثورة أن تتجاهله، من حكومة عصام شرف إلى الجنزورى إلى قنديل إلى الببلاوى إلى محلب، وكأن هناك قوى مصرة على تنفيذه أيا كانت الظروف، دون أن يُقال لنا قط ما الذى ينطوى عليه هذا المشروع بالضبط؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved