مشاهد من استقالة «تيريزا ماي»

زياد بهاء الدين
زياد بهاء الدين

آخر تحديث: الإثنين 27 مايو 2019 - 9:53 م بتوقيت القاهرة

أخيرا اتخذت رئيسة الوزراء البريطانية القرار الذى كان يجب أن تقدم عليه منذ شهور ماضية، وهو الاستقالة من منصبها وترك الفرصة لرئيس وزراء آخر كى يخرج بالبلد من أزمة الخروج من الاتحاد الأوروبى «بريكسيت» فى أعقاب الاستفتاء الذى جرى من أكثر من عامين وجاءت نتيجته لصالح الخروج.

وقد تابعت خلال العامين الماضيين ملحمة «بريكسيت» كما تابعها الملايين فى أنحاء العالم، والجهد الخارق الذى بذلته «تريزا ماى»، ومفاوضاتها المضنية مع الاتحاد الأوروبى للتوصل لصيغة مناسبة للخروج، ومحاولاتها المستميتة لإقناع برلمانها بقبول عشر صيغ مختلفة لاتفاق التخارج وليس صيغة واحدة. ولكن فى النهاية فإن استقالتها صارت حتمية حينما بات واضحا أنها لن تنجح فى الحصول على دعم غالبية البرلمان، ولا الحفاظ على وحدة حزبها، وأن بقاءها صار عبئا، وأن الوقت حان لقيادة جديدة قد يكون حظها أفضل. وقد فاجأت «تريزا ماى» شعبها والعالم حينما ذرفت دموعا غير متوقعة من سيدة كانت يوما ما وزيرة للداخلية وقائدة يعتقد أنها سترث لقب المرأة الحديدية من مثلها الأعلى «مارجريت ثاتشر».

مع ذلك فإن فشل «تريزا ماى» فى إقناع برلمانها بصيغة توافقية للخروج من الاتحاد الأوروبى لا يعبر عن أزمة بريطانية فقط بل عن كثير من أعراض وأمراض السياسة المعاصرة فى أوروبا بشكل خاص وفى معظم بلدان العالم بشكل أوسع. وسأتوقف اليوم عند بعض المشاهد البريطانية التى تستدعى المقارنة.

أولها الانقسام العميق فى المجتمع بين مؤيدى الخروج من الاتحاد الأوروبى والرافضين له، على نحو ما عبرت عنه نتيجة الاستفتاء منذ عامين وعلى نحو ما يرجح أن تعبر عنه نتيجة أى استفتاء تال ولو جاء لصالح البقاء بدلا من الخروج. ثنائية القضايا السياسية والاقتصادية أصبحت أمرا واقعا، والاندفاع نحو الأقطاب والبعد عن المساحات الوسطية تحد كبير يواجه كل من يسعى لتقديم روية معتدلة أو متزنة. وقديما عبرت السيدة «مارجريت ثاتشر» عن هذه الحالة بقولها المشهور، «أن من يقف فى منتصف الطريق يعرض نفسه للدهس من السيارات الآتية من الجانبين». وأنا بوجه عام لست من المعجبين بها ولا بسياساتها، ولكن أجد أن فى تعبيرها عن حال السياسة من أكثر من خمسة وعشرين سنة بعد نظر وفهم عميق لما آلت اليه طبيعة الخطاب السياسى المعاصر.

المشهد الثانى هو الخلل العميق الحادث فى المعلومات المتاحة حول أى موضوع خلافى، ليس بسبب قصور وسائل التعبير، ولا شدة الرقابة عليها، ولا قلة المعلومات، بل العكس تماما، بسبب كثرة المعلومات والأحاديث والتصريحات والوعود، إلى حد دفع أحد المعلقين لوصف ما جرى من نقاش سابق على الاستفتاء البريطانى منذ عامين بأنه «ثورة اللامعلومات» ويقصد بذلك الشائعات والحملات المدفوعة والتحريض والتخويف، بما جعل الجمهور البريطانى يقع ضحية لتصورات غير واقعية وفروض غير مدروسة ووعود لا أساس لها من الصحة خاصة من جانب مؤيدى الخروج.

المشهد الثالث هو عدم انضباط حزب المحافظين وراء حكومته ورئيسة وزرائه، بل انقسام أعضائه وانشغال بعضهم منذ اللحظة الأولى باضعاف موقفها والبحث عن فرصة افشالها من أجل الحلول محلها حينما تسنح الفرصة. وهذا أيضا ليس موقفا بريطانيا متفردا، بل من سمات العمل السياسى فى كل عصر وكل أوان، حينما يجد السياسى نفسه مشغولا ليس فقط بالتصدى لخصومه السياسيين وإنما بمن يفترض بهم أن يكونوا اعوانه وحلفاءه ومن يحمون ظهره.

ثم نأتى للمعارضة، والتى مثلها فى الموقف الأخير حزب العمال ذو التاريخ العتيد والذى يعتبر الوجه الثانى للسياسة البريطانية. وهنا أيضا عبر موقف الحزب ورئيسه عن سمة طاغية فى سياسة اليوم، وهى سهولة المعارضة وتفتيت وهدم كل ما قدمته الحكومة دون امتلاك أى بديل حقيقى أو حتى تصور جاد يستند اليه الجمهور ويثق فيه. وقد نجح زعيم حزب العمال البريطانى فى هذه القضية المصيرية فى أن يكيل للحكومة ضربات موجعة ويكشف كل نقاط الضعف فى خطابها وطرحها، دون أن ينجح للحظة واحدة فى تقديم بديل حقيقى أو اضافة شىء مفيد، أو وضع تصور واقعى للخروج من الأزمة يحظى بموافقة أعضاء حزبه داخل البرلمان وخارجه.

هذه كلها مشاهد متفرقة، دفعت رئيسة الحكومة للاستقالة ودفعت من قبلها ببريطانيا لأحد أكبر الأزمات التى عرفتها فى تاريخها الممتد عبر القرون. وهى مشاهد تعبر ليس عن خصوصية بريطانية فقط وإنما عن أزمة أعمق واخطر فى قلب النظام الديمقراطى الليبرالى التقليدى وتهدد أمن وسلامة العالم.

ومع ذلك فالخروج من كل هذا بنتيجة أن الديمقراطية فى أزمة ولذا يمكن الاستغناء عنها واستبدالها بنظم حكم بديلة ليس الدرس الصحيح، لأن الديمقراطية تظل على عيوبها النظام الوحيد الذى يسمح للمواطنين بالمشاركة الفعالة فى تقرير مصيرهم ومراقبة حكوماتهم. الدرس الصحيح والتحدى الذى يواجه العالم هو إصلاح وتطوير وتحديث مفهوم الديمقراطية لكى يناسب طبيعة العصر وتحدياته. وهذا حديث آخر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved