ماي.. ودموع الفشل

طلعت إسماعيل
طلعت إسماعيل

آخر تحديث: الإثنين 27 مايو 2019 - 9:50 م بتوقيت القاهرة

قبل ثلاث سنوات، وفى 13 يوليو 2016 بالتحديد، اعتلت تيريزا ماى كرسى رئاسة مجلس الوزراء البريطانى، كثانى سيدة تتبوأ هذا المقعد فى تاريح المملكة المتحدة، بعد رئيسة الوزراء الراحلة مارجريت تاتشر، وخلال تلك السنوات جاهدت ذات الشعر الأبيض لتحقيق مهمة محددة جاءت من أجلها، وهى تأمين خروج بريطانيا الآمن من عضوية الاتحاد الأوروبى تنفيذا لإرادة ناخبى بلدها عقب نتائج الاستفتاء الشهير فى 23 يونيو 2016 المطالبة بهجر البيت الأوروبى.

جهود ماى اصطدمت بواقع صعب ومعقد أكثر مما كانت تظن صاحبة الإنجازات الملفته عندما كانت فى منصب وزير الداخلية. فالانسلاخ عن الاتحاد الأوروبى، والخروج من التكتل يحتاج لمهارات يبدو أن ماى لم تكن مؤهلة لها، فى ظل ظروف غير مواتية لسعيها لتمرير اتفاق الخروج الذى وقعته مع بروكسل، وتعرض لثلاث هزائم متتالية داخل البرلمان البريطانى.

لم يكن أمام ماى إزاء هذا الإخفاق، والذى يفتح طريقا لخروج بريطانيا من دون اتفاق مع الشركاء الأوربيين على الرغم من عواقبه السلبية، سوى تقديم الاستقالة كعادة صناع السياسة فى الدول الديمقراطية العريقة مثل المملكة المتحدة، وبالتالى لم يكن غريبا أن تقف السيدة على الملأ خارج مقر الحكومة البريطانية فى 10 دوانينج ستريت لإعلان استقالتها اعتبارا من 7 يونيو المقبل، وترك «خدمة بلد أحبته».

مشهد ماى وهى تذرف الدموع فى نهاية كلمة مؤثرة اعترفت خلالها بإخفاقها فى تنفيذ ما وعدت به لدى اختيارها رئيسة للوزراء وزعامة حزب المحافظين، سيظل عالقا فى الأذهان كلما جىء على ذكر اسمها، خاصة عند الحديث سواء فى الحاضر أو المستقبل عن خطة الخروج البريطانية من الاتحاد الأوروبى أو ما يعرف بـ«بريكست».

تحلت ماى بالشجاعة للاعتراف بالفشل، وتساقطت دموعها ليس لكونها تترك منصبا رفيعا احتله قادة كبار أمثال وينستون تشرشل، ومارجريت تاتشر، أو حسرة على مميزات المقعد الوثير، لكن تأكيدا على قيم ديمقراطية راسخة تجبر من يفشلون على التنحى، وتسليم الراية إلى من يكون أكثر تأهيلا، وأعظم كفاءة على قيادة الأمم، فالمناصب زائلة ومصالح الشعوب الأبقى.

يقول البعض إنه «لا يأتى من الغرب ما يسر القلب»، وهذا ليس صحيحا فى كل الحالات، فها هو الغرب يقدم نموذجا مفرحا لعملية تداول السلطة، وفضيلة الاعتراف بالفشل، بعد السعى الحثيث لتحقيق الأهداف الواضحة والمحددة للحاكم، وإطلاع المحكوم على كل كبيرة وصغيرة تتعلق بحياته اليومية، ومصيره المستقبلى.

فى الغرب الكثير من العبر من وجهة نظر البعض، غير أنه ليس من تلك العبر الالتصاق بمقاعد الحكم لأى فاشل يخفق فى تحقيق ما ييسر حياة الناس ويترجم تطلعاتها وأحلامها إلى واقع ملموس، وعند أول أخفاق يلوح مودعا، ولا يتشبث بأهداب زعامة مفقودة، أو إنجازات وهمية لم تقنع أحدا.

دموع ماى قد يرى فيها البعض أيضا نوعا من التطهر من أكاذيب الساسة، ودسائس السياسة التى عادة ما ترافق الصعود إلى المواقع الكبرى فى حكم الشعوب، لأننا أمام ساحة مفتوحة على المناورات، والألاعيب الخفية، بل والتضليل أحيانا عملا بنصائح مكيافيلى تحت شعار «الغاية تبرر الوسيلة»، فنجد الأمر وقد دخل فى بعض الأوقات حظيرة الخيانات!

اليوم تجد بريطانيا نفسها أمام مفترق طرق وحيرة أمام احتدام المنافسة على خلافة ماى ممن هم أكثر تشددا وحماسا لـ«بريكست»، فى مقابل تشدد أوروبى، عبر عنه أكثر من قيادى فى الاتحاد، بشأن عدم فتح باب النقاش مجددا حول اتفاق الخروج البريطانى الذى أخفقت ماى فى تمريره داخل البرلمان لثلاث مرات.

وعلى كل حال فإن البريطانيين والأوروبيين سيجدون فى النهاية طريقا لتسوية مشاكلهم بشأن «بريكست» إما بالتوافق أو عدم التراضى، فيما سيبقى الدرس ماثلا لبعض الشعوب التى لم تذق طعما حقيقيا للديمقراطية، ومفاده أن المصلحة العامة أهم من الأفراد ولو عظم شأنهم، ومستقبل الأوطان ليس مجالا للتجريب، أو ساحة للمغامرة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved