حارس الأسوار: انتصار تكتيكى.. وخسارة استراتيجية

من الصحافة الإسرائيلية
من الصحافة الإسرائيلية

آخر تحديث: الخميس 27 مايو 2021 - 10:20 م بتوقيت القاهرة

بعد عشرة أيام من القتال انتهت الحرب الرابعة بين «حماس» وبين إسرائيل منذ سيطرة الحركة الإسلامية على القطاع فى سنة 2007.

وكسابقاتها انتهت الحرب من دون حسم واضح، لكن يوجد انطباع بأن الاشتباك الحالى كان مختلفا اختلافا مطلقا عن جولات القتال السابقة من حيث اختلاف اللغة والتفكير بين «حماس» وإسرائيل، والذى كشف فجوة فكرية ومفهومية.

بينما اتسم التفكير الإسرائيلى طوال القتال بمنطق تكتيكي ــ كمى، كان تفكير «حماس» استراتيجياــ نوعيا. برز هذا جيدا فى النقاش الداخلى الإسرائيلى الذى تركز على الإنجازات الكمية للقتال، مثل عدد الأهداف التى هوجمت وعدد عناصر «حماس» الذين قُتلوا، وكميات الصواريخ التى أُطلقت، والتى جرى اعتراضها، وعدد الأبراج التى دمرها سلاح الجو وغيرها. من وجهة النظر هذه، إن هذا الأسلوب القتالى رسخ أكثر المقاربة الإسرائيلية التى وضعت آمالها على محاولة تحقيق أكبر عدد ممكن من الإنجازات من خلال ضرب «أهداف».

من هذه الزاوية قام الجيش الإسرائيلى بعمل جيد، إذ أدار المعركة جيدا من خلال التنسيق بينه وبين الشاباك، بينما المستوى السياسى المختلف سياسيا مع بعضه البعض نجح فى المحافظة على الانسجام، وعلى تعاون يستحق الثناء. ومن دون شك تلقت «حماس» ضربة عسكرية واسعة من وجهة نظر عسكرية ــ لكن هنا تكمن المشكلة. فالمنطق التكتيكي ــ الكمى منع إسرائيل من تحقيق نتيجة عسكرية واضحة لا جدال فيها، بينما استخدمت «حماس» منطقا مغايرا للغاية وركزت بصورة منهجية على أهداف استراتيجية.

من وجهة النظر هذه نجحت «حماس» نجاحا لم يكن متوقعا. فهى لم تبادر فقط إلى المعركة من خلال إطلاق الصواريخ على القدس فى يوم عيد الفطر، وبذلك فاجأت إسرائيل، بل نجحت حتى فى خلق موجة تداعيات لهذه الحرب خارج حدود القطاع. الخلافات التى ظهرت فى العلاقات اليهودية ــ العربية فى إسرائيل، والاضطرابات فى المدن المختلطة إلى جانب تسخين قطاع الضفة الغربية كانت من النتائج التى رافقت الحرب فى القطاع، وفعلا نجحت «حماس» فى توحيد المنظومة الفلسطينية كلها (فى غزة، وفى الضفة وداخل إسرائيل)، وفككت بعد سنوات من نجاح غير قليل المنطق الأساسى فى السياسة الإسرائيلية التى تعتمد على دق إسفين بين أجزاء المنظومة الفلسطينية بهدف إضعافها.

علاوة على ذلك، خاضت «حماس» المعركة انطلاقا من منظور إقليمى ودولى. وضع القدس كهدف رمزى للمعركة بخلاف جولات القتال السابقة، حيث كانت مشكلة «الحصار» هى أساس القتال وهدفه، سمح لها بتنصيب نفسها رئيسة لمعسكر «المقاومة» الإقليمى الشامل على حساب حزب الله، الذى اضطر فى الأسبوع الماضى إلى السكوت عن إطلاق أطراف فلسطينية «مارقة» الصواريخ من لبنان فى اتجاه إسرائيل، عملية يمكن أن تتطور كنموذج عمل دائم فى مواجهة إسرائيل.

لقد حددت «حماس» فى المعركة الأخيرة جدول الأعمال فى الشرق الأوسط ولم تعد المعركة فى غزة مجرد «جولة قتال» محلية بينها وبين إسرائيل، بل أصبحت تعبيرا أو حجر أساس فى المعركة الكبيرة التى تجرى فى الشرق الأوسط بين مدرستين فكريتين تمثلان معسكرين إقليميين:

الاستراتيجيا الاقتصادية ــ البراغماتية «أصحاب الأدمغة»، حيث تقف إسرائيل إلى جانب الدول الثرية التى تكره المجازفة فى المنطقة. هذه المدرسة وضعت فى مركزها سياسة تتركز على الدفع قدما بجدول أعمال اقتصادى، وكانت وراء اتفاقات أبراهام، وكذلك وراء ظاهرة منصور عباس. وهى فعليا التى حددت «صفقة القرن» لإدارة ترامب.

مدرسة «أصحاب القلوب» فى «معسكر المقاومة» التى تركز على السياسات القديمة التى تعتمد على الدفع قدما برؤى مثالية وطوباوية وتعطى الأولوية للمستقبل على الحياة فى الوقت الحاضر. فى العقد الماضى تمكنت المدرسة البراغماتية من تحقيق تفوّق واضح فى المنطقة تحت رعاية الإدارة الأمريكية، ويبدو أن المعركة فى غزة كانت بمثابة تحدّ لها وذلك لثلاثة عوامل: تغير الإدارة فى الولايات المتحدة، وتخلّى الرئيس بايدن وإدارته التقدمية عن سياسة خلفه؛ ضعف المنظومة السياسية فى إسرائيل، وفى الأساس ضعف نتنياهو الذى يُعتبر محورا استراتيجيا مركزيا ورادعا؛ تقدير أطراف المقاومة ضعف الغرب (بما فيه إسرائيل) على خلفية الصعوبات الداخلية خلال أزمة الكورونا.

وبينما كان العقد الأخير يمتاز باستقرار أمنى نسبى فى المنطقة، وبضعف أطراف «المقاومة» وتراجُع كبير للمسألة الفلسطينية جاءت المعركة فى القطاع لتقلب هذا الواقع، وجرّت وراءها كل أنصار سياسات الهوية، سواء فى القطاع أو بين العرب فى إسرائيل وبين الشعب الفلسطينى فى الضفة الغربية. لقد حوّلت المعركة فى غزة الصدام التكتيكى بين الطرفين إلى صدام استراتيجى بين مدرستين وتوجّهين ونظريتين ومعسكرين مختلفين. من هذه الناحية كان لدى إسرائيل فرصة استثنائية لتحويل غزة و«حماس» إلى درس إقليمى ودولى، واستعادة التوازن السابق وإعادة ترسيخ أجندة براغماتية اقتصادية.

المطلوب لهذا الغرض أن تغير إسرائيل استراتيجيتها إزاء غزة، وأن تحدد أهدافا عملانية متعددة تؤدى إلى معركة تنتهى بتحطيم كامل لقواعد القوة العسكرية لـ«حماس». وهذا يعنى التخلى عن الاستخدام المعروف للمعركة الجوية لمصلحة معركة تجمع بين الجو والمناورة البرية. لكن يبدو أن الفجوة بين اللغة وتوجه إسرائيل التكتيكي ــ الكمى وبين التوجه الاستراتيجى ــ النوعى لـ«حماس» كشف عن الصعوبة الإسرائيلية فى فهم طبيعة المعركة الحالية ودلالاتها الخاصة مقارنة بسابقاتها والتعرف على الإطار الواسع الذى تجرى ضمنه.

لقد واصلت إسرائيل العمل وفق المنطق العملانى العسكرى عينه الذى استخدمته فى الجولات السابقة واعتبرت القتال مجرد جولة تخوضها ضد «حماس». فى هذه الظروف انتهت المعركة بإنجاز تكتيكى مدهش، لكن فى تحليل استراتيجى أوسع يذكّرنا هذا بالإنجاز الكمى الأمريكى فى مقابل الخسارة الأمريكية الاستراتيجية فى حرب فيتنام [(1959ــ1975)]. ولذلك تداعيات واضحة على السياسة الشرق الأوسطية على مختلف المستويات تقريبا.

حاليا كفة «أهل القلوب» هى الراجحة. لقد نصّبت «حماس» نفسها لاعبا استراتيجيا مهما يتخطى الساحة الفلسطينية، ونجحت فى تقويض النموذج الاقتصادى البراغماتى لـ«صفقة القرن»، ودقت إسفينا بين اليهود والعرب فى إسرائيل، وأعطت الأطراف المسلحة فى المنطقة أسبابا وجيهة لمواصلة تحدّيهم لإسرائيل. وهذه ليست أخبارا جديدة «لأصحاب الأدمغة»، وللذين يحبون الحياة. أيّ تصحيح للمسار الناشئ يتطلب قبل كل شيء استيعابا معرفيا للدلالات الحقيقية للحرب الأخيرة، ونتائجها الفعلية، وفى أسرع وقت ممكن.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved