التعلّق.. حين يتحوّل الحب إلى قيد
صحافة عربية
آخر تحديث:
الثلاثاء 27 مايو 2025 - 8:00 م
بتوقيت القاهرة
نشرت جريدة الرأى الكويتية مقالا للكاتبة نادية الخالدى، توضح فيه أن التعلق العاطفى ليس خطأ بحد ذاته، بل يتحوّل إلى معاناة حين يُربط بالحاجة والشعور بالنقص، ويُشفى الإنسان منه عندما يعيد تعريف الحب بوصفه علاقة ناضجة تقوم على الأمان الداخلى والاكتمال الذاتى، لا على الاعتماد المرضى على الآخر.. نعرض من المقال ما يلى:
نولد ونحن نبحث عن الأمان، عن حضن يحتوى خوفنا الأول من هذا العالم، ذلك الخوف الذى لا نملك له اسمًا لكننا نصرخ بسببه لحظة خروجنا إلى الحياة. منذ تلك اللحظة، يبدأ التعلق. التعلق ليس ضعفًا كما يظنه البعض، بل هو رغبة بشرية فطرية بأن يكون هناك من يرى وجودنا ويشعر به. أن نُحب، أن نشعر بأننا نُهم، أن يكون هناك شخص واحد على الأقل إذا ارتجفنا احتوانا، وإذا سقطنا انتشلنا. لكن المشكلة ليست فى التعلق، بل فى أن يتحول إلى قيد.
يصبح التعلق مؤلمًا عندما نعلّق سعادتنا بوجود شخص أو استمراره. حين نظن أن الحياة لا تُطاق من دونه، أو أن قيمتنا تسقط إذا ابتعد، أو أننا غير مرئيين إلا من خلال عينيه. هذا التعلق يتحول إلى جرح مفتوح نُنزف منه كل يوم دون أن نشعر، لأنه يسرق حريتنا، ويجعلنا عبيدًا لردة فعل أو رسالة أو وجود.
وفقًا لنظرية التعلق لـ جون بولبى (John Bowlby)، فإن العلاقة الأولى التى نبنيها مع مقدم الرعاية فى طفولتنا تترك بصمة دائمة فى طريقة ارتباطنا بالآخرين فى المستقبل. فإذا نشأنا على غياب الاستجابة العاطفية، أو نشأنا فى جو من التهديد أو الرفض، نكبر ونحن نبحث عن «الوجه الآخر» لهذا النقص، ونصبح عرضة للتعلق المرضى. نخاف أن يُتركنا الآخر، لأن عقلنا الباطن يكرر تجربة الهجر الأولى التى لم تُشف.
نحن لا نُشفى من التعلق فجأة، بل نُشفى حين نبدأ بإعادة تعريف الحب. حين نفهم أن الحب لا يعنى التملك، وأن القرب يجب ألا يكون شرطًا للحياة. نبدأ بالتعافى حين نعرف أننا نستحق أن نُرى حتى وإن كنا وحدنا، وأن السلام الداخلى لا يُمنح، بل يُصنع.
أذكر حالة لفتاة فى بداية الثلاثين، كانت تُدخل نفسها فى علاقات عاطفية سامة، لا لأنها لا ترى العيوب، بل لأنها تخاف من فكرة أن تكون «بلا أحد». كانت تكتب لى: «أفضّل أن أُؤذى على أن أُترك». وعندما عدنا إلى جذور التعلق لديها، وجدنا طفلة عاشت طفولتها وهى تنتظر أباها كل مساء على الباب، ولم يعد. منذ ذلك الحين، لم تعد تثق فى أن من يحب، يبقى. وبدأت تخلط بين الحب ووجود الألم، بين الغياب والحنين. تعافت حين سمحت لذاك الطفل بداخلها أن يُصدق بأن الحب لا يعنى الانتظار، بل الأمان.
أحيانًا نتعلق لأننا لم نحصل فى طفولتنا على أمان كافٍ، فنتشبث بأى دفء يشبه ذلك الذى افتقدناه. وأحيانًا نتعلق لأننا لم نتعلم أن نحب أنفسنا، كما يجب، فنبالغ فى تقديس الآخر لنملأ الفراغ فينا. كل هذه الأسباب لا تجعلنا سيئين، بل فقط بشرًا بحاجة لفهم أعمق.
العلاقات السليمة لا تقوم على التعلق، بل على الالتقاء. التقاء روحين تمتلآن بأنفسهما، وتختاران أن تسيرا جنبًا إلى جنب لا أن تندمجا حد الذوبان. فالحب الناضج لا يبتز ولا يخيف ولا يطلب إثباتًا دائمًا، بل يمنح مساحة، ويتنفس بحرية، ويزهر مع الوقت.
التعلق سجن عاطفى، لكن الوعى مفتاح بابه. وما بين الإدراك والاختيار، تنبت الحرية، ويولد نوع آخر من الحب: حب قائم على النضج لا على الحاجة، على الامتلاء لا على النقص، وعلى السلام لا على القلق.