لعنتان أصابتا مصر وضربتا سيناء

فهمي هويدي
فهمي هويدي

آخر تحديث: الثلاثاء 27 يوليه 2010 - 10:09 ص بتوقيت القاهرة

أما آن لنا أن نعترف بأن مشكلة سيناء هى مشكلة مصر مصغرة ومكثفة، وأنه لا سبيل أمامنا إلى حل الأولى، إلا إذا وجدنا حلًا ناجعًا للثانية؟

(1)
بين أيدينا لقطة طازجة تقرب الصورة إلى الأذهان، قبل أن ندخل فى صلب الموضوع، يوم السبت الماضى 24/7 نشرت صحيفة «الشروق» حوارا مع محافظ سيناء ومدير المخابرات الحربية الأسبق اللواء مراد موافى، شن فيه هجوما قاسيا على الناشطين من أبناء سيناء، إذ وصفهم بأنهم بلطجية وخارجون على القانون تحركهم قوى خارجية، وأن الإجرام متأصل فى بعضهم. كما دافع عن الاعتقالات التى أجرتها وزارة الداخلية لأعداد منهم. أضاف المحافظ قائلا: إن الإعلام هو الذى أثار الضجة حول ما يحدث فى سيناء، حين صور الذين يحركون الأحداث هناك باعتبارهم أبطالا.

ومن جانبه واعتبر أن المعالجات الصحفية، التى تحدثت عن مشاكل البدو مع الشرطة بمثابة فرقعات إعلامية، لم تعتن بمصلحة مصر أو كرامتها أو أمنها.
فى اليوم التالى مباشرة (السبت 25/7) كان العنوان الرئيسى لصفحة الأهرام الأولى كالتالى: فتحى سرور: المعارضة والحركات الاحتجاجية تعمل للهدم لا البناء.

وتحت العنوان ذكرت الصحيفة أن رئيس مجلس الشعب: أكد أن فى مصر حزبا يعمل وحركات احتجاجية ومعارضين يسعون للهدم لا البناء. وليس لدى هؤلاء أى رؤية للإصلاح، فهذه المجموعات تحمل الفئوس لهدم كل شىء. فهمنا من الكلام المنشور ان فريقا من محررى الأهرام يتقدمهم رئيس التحرير أجروا حوارا مطولا مع رئيس مجلس الشعب، الدكتور فتحى سرور، تناول أمورا عدة، لم يجد الأهرام ما يستحق الإبراز منه إلا العنوان الذى سبق ذكره على الصفحة الأولى. وعلى الصفحة الداخلية تكرر الموقف ذاته فى عنوان آخر كان كالتالى: بعض المعارضين والحركات (الجماهيرية) تعمل لصالح المجهول.

هى لغة واحدة عبر عنها محافظ شمال سيناء ورئيس مجلس الشعب، الأول وصف الناشطين فى سيناء بأنهم «بلطجية» تحركهم قوى خارجية، والثانى وصف المعارضين بأنهم هدامون وبعضهم يعمل لصالح المجهول. وهو اتفاق يثير الانتباه بالنظر إلى موقع كل من الرجلين.

فمحافظ سيناء رجل عسكرى مخضرم يمثل السلطة التنفيذية، أما الدكتور سرور فهو رجل قانون بالأساس، ويفترض أنه يمثل الشعب. ورغم المسافة الشاسعة بين موقعى الرجلين إلا أن منطقهما كان واحدا. إذ لم يترددا فى شيطنة الآخر واتهامه، ولم ير أى منهما أن الحراك الحاصل يمكن أن يحمل فى طياته شيئا يتصل بالصالح العام. الأمر الذى يعنى أن العقل الذى يدير سيناء، لم يختلف فى شىء عن العقل المهيمن فى القاهرة، حتى لدى من نصبوا أنفسهم ممثلين عن الشعب.

(2)
إذا ركزنا النظر على المشهد فى سيناء، فسنلاحظ أن جريدة «الشروق» نشرت على صدر صفحتها الأولى لعدد الجمعة الماضية (23/7) عنوانا تحدث عن تصاعد المواجهات بين الداخلية (الشرطة) وبين قبائل بدوية فى جبل عتاقة بسيناء. لم يكن الخبر مفاجئا أو مثيرا. وصياغة العنوان دلت على ذلك. إذ افترضت أن ثمة مواجهة مستمرة بين الطرفين، تهدأ حينا ثم لا تلبث أن تتجدد بعد ذلك. والصياغة دقيقة فى هذه الزاوية، لأننا اعتدنا طوال السنوات الأخيرة على وقوع مثل هذه الاشتباكات، التى كادت تقنعنا بأن سيناء تحولت إلى ساحة حرب بين الأجهزة الأمنية والشرطة من ناحية، وبين القبائل من ناحية ثانية.

لقد تفاءلنا أو أريد لنا أن نتفاءل باجتماع وزير الداخلية فى 29 يونيو الماضى مع شيوخ القبائل الذين تم استقدامهم من سيناء، بعدما تصاعدت موجة الاشتباكات بين الشرطة والقبائل، حتى تحدثت الأنباء عن محاولة لتفجير خط أنابيب الغاز إلى إسرائيل، وعن إغلاق معبر العوجة البرى. وعزز ذلك التفاؤل ان قرارات صدرت بإطلاق سراح دفعات من المعتقلين (نحو 140 شخصا من بين عدد يتراوح بين 600 وألف من البدو). لكن تبين أن التفاؤل كان تعبيرا عن الإفراط فى حسن الظن، ليس فقط لأن كلام محافظ سيناء الذى سبقت الإشارة إليه سحب الكثير من رصيد التفاؤل إن لم يكن قد بدده تماما، ولكن أيضا لأنه تم اكتشاف محاولة لتسميم ثلاثة من قيادات بدو وسط سيناء على يد عميل جنده جهاز أمن الدولة. وقد تم ضبط الشخص الذى لا يزال محتجزا وسجلت اعترافاته كاملة، وأرسلت نسخ منها إلى الجهات السيادية المختصة. على الأقل فهذا ما تقوله مصادر البدو، التى لم يصدر تكذيب لمعلوماتها.

جدد ذلك الحادث هواجس الشك فى موقف الأجهزة الأمنية، بحيث ساد الاقتناع بأن شيئا لم يتغير فى سياستها، التى تعتمد على القمع واختراق صفوف الناشطين عن طريق غواية بعض العناصر وتجنيدها، ومن ثم استخدامها سواء فى عزل الناشطين أو تصفيتهم.

نكأ الحادث جراحا قديمة، وأعاد إلى الأذهان وقائع كثيرة كامنة فى الذاكرة، منذ ظهرت عناصر أمن الدولة فى سيناء بصورة لفتت الأنظار بعد انسحاب الإسرائيليين فى عام 1982، وحين حدث الزلزال الأمنى الكبير هناك عقب تفجيرات طابا فى عام 2004، ثم تفجيرات شرم الشيخ عام 2005، وما حدث فى «دهب» عام 2006. وهى التطورات التى دفعت الشرطة إلى القيام بحملة تمشيط واسعة النطاق لسيناء، أسفرت عن اعتقال وتعذيب آلاف من البشر على نحو استخدمت فيه الأساليب التى نعرفها، والتى دعت كثيرين إلى الاحتجاج بأن الإسرائيليين لم يفعلوا بهم ما فعلته أجهزة الأمن المصرية.

استعاد اهل سيناء ايضا ذكريات ما جرى عام 2007، الذى يعد نقطة تحول فى المواجهة بين الشرطة والقبائل. اذ تعددت حوادث القتل بين الاهالى التى اتهمت فيها الشرطة مما فجر مشاعر الغضب فى ارجاء سيناء، خصوصا حين قتل الصبى محمد عرفات (17 سنة) فى ميدان «ماسورة» قرب رفح. وثارت ثورة القبائل حتى هوجمت مقار الحزب الوطنى ومزقت صور كبار المسئولين، وشيعه الناس فى اكبر جنازة عرفتها سيناء خرجت من «الشيخ زويد».
فى عامى 2008 و2009 كان قد وقع العدوان على غزة، ثم حدث اشتباك بين الشرطة والاهالى بسبب ازالة المساكن فى رفح لإقامة السور الفولاذى، الذى يحكم حصار غزة.

وحين بدا أن الأمور تزداد تفاقما عاما بعد عام، وأن الأساليب البوليسية وسعت من دائرة السخط والتمرد. بل ودفعت الناشطين من أبناء سيناء إلى التلويح بتهديدات أقلقت السلطة، من قطع خط أنابيب الغاز المرسل إلى إسرائىل وإغلاق معبر العوجة، وتهديد مصنع الأسمنت المقام وسط سيناء. ذلك إضافة إلى أن قضيتهم وصلت إلى المحافل الدولية، وأصبحت معاناة الناشطين فى سيناء وما يتعرضون له من قمع وتعذيب مدرجة ضمن تقارير المنظمات الحقوقية فى الغرب. حينذاك تم ترتيب اجتماع شيوخ القبائل مع وزير الداخلية، واتخذت إجراءات تخفيف الضغوط وإطلاق سراح المعتقلين، على النحو الذى سبقت الإشارة إليه.

(3)
لا مجال للدفاع عن جرائم ارتكبت على أيدى نفر البدو إذا ثبتت وقائعها أو عن محاولات التهريب التى تورط فيها البعض. لكننى أزعم ان التعميم فى ذلك يعد خطأ جسيما.

كما ازعم أن الأجهزة الأمنية إذا ما عاملت أبناء سيناء بنفس الأسلوب الذى تتعامل به مع بقية أبناء الشعب المصرى فى تجاهل لجغرافية المنطقة أو خصوصية الوضع الاجتماعى والقبلى، فإنها بذلك تفجر أوضاعا لا قبل لها بها. وإذا جاز لنا أن نتصارح أكثر، فلا مفر من الاعتراف بأن الشرطة فشلت فى السيطرة على الموقف فى سيناء أو التفاهم مع قبائلها. وفضلت استخدام بعض العناصر الموالية التى تم اغراؤها. لا مفر من الإقرار أيضا بأن اعتبار سيناء حالة أمنية، كان ولا يزال المدخل الغلط الذى أوصل الأمور إلى ما وصلت إليه.

أدرى أن ثمة أطماعا فى سيناء، وهناك من يطرح لها سيناريوهات جهنمية تستهدف استقرار مصر وأمنها، وهى خلفية يفترض أن تكون حافزا على اتباع سياسة أكثر حكمة وحنكة للتفاعل مع سيناء، وليس التخاصم أو التنابذ مع قبائلها.

(4)
فى كتاب «شخصية مصر»، ذكر الدكتور جمال حمدان استاذ الجغرافيا السياسية الراحل، أن سيناء تختزل مصر من الناحية الجغرافية. حتى اعتبرها «ملخصها الجغرافى». ويبدو أن هذا الاختزال حاصل على الصعيد السياسى أيضا، على الأقل من زاويتين أساسيتين هما:
أولا: كما أن مصر قبل كامب ديفيد غير مصر بعدها، كذلك سيناء.

مصر بعد كامب ديفيد انكفأت على ذاتها، وخرجت من محيطها العربى، وصارت حليفا استراتيجيا لأعدائها الاستراتيجيين. أما سيناء فقد أصبحت مرتهنة للإسرائيليين، وبسبب جوارها الجغرافى فإن اتفاقية كامب ديفيد أرادت لها أن تكون إحدى ضمانات الدفاع عن أمنها. على مستويين. فمن ناحية اعتبر الشريط الحدودى الممتد من البحر المتوسط وحتى جنوب سيناء، (بطول 250 كيلومترا وعرض 40 مترا وقد وصف بأنها المنطقة جـ)، أقرب إلى المنطقة العازلة منزوعة السلاح، اقتصر الوجود الأمنى فيها على الشرطة فحسب، بإعداد مقررة، وبتسليح محدود وعدد متفق عليه من سيارات الجيب، إلى غير ذلك من الاشتراطات التى تتولى قوات حفظ السلام مراقبتها وتحديد مدى الالتزام بها.

وفى غيبة القوات المسلحة انتشرت قوات الأمن المركزى وعناصر مباحث أمن الدولة، التى أصبحت تتولى إضافة إلى تنفيذ ما تم الاتفاق عليه، مراقبة أى عبور أو عون يقدم للفلسطينيين من جانب إخوانهم فى سيناء.

على صعيد آخر، وطالما نظرت إسرائيل إلى سيناء باعتبارها إحدى جبهات الدفاع عن أمنها، فإن عينها ظلت مفتوحة على ما يجرى فيها، بحيث أصبحت شديدة الحساسية إزاء أى جهد حقيقى للتنمية على ارضها.

وغدا ترحيبها منصبا على المشروعات التى يمكن أن تستفيد منها، كما حدث مع مصنع الأسمنت الذى كان بعض إنتاجه يذهب لصالح مشروع الجدار العازل الذى تبنيه فى الأرض المحتلة. وقد سمعت من بعض المهتمين بشأن سيناء تساؤلا عن سبب عدم وصول مياه ترعة السلام إلى سيناء، وما إذا كان للتحفظ الإسرائيلى عليها صلة بذلك.

ثانيا: حين اعتبرت سيناء حالة أمنية، أطلقت فيها يد الشرطة ومباحث أمن الدولة فإن ذلك يعد صورة طبق الأصل لما يحدث فى مصر، التى أصبحت مصائر الحياة السياسية والاجتماعية، مرتبطة كلها بالقرار الأمنى.


من رضى عنه الأمن صعد وانفتحت له الأبواب، ومن رفع عنه الرضى خسفت به الأرض وأغلقت فى وجهه الأبواب، أما تمشيط سيناء واعتقال أعداد غفيرة من أبنائها. والتنكيل بأكبر عدد من البدو عقب التفجيرات التى وقعت فى طابا وشرم الشيخ ودهب، فذلك كله لم يختلف فى شىء مما يحدث فى بر مصر.

إن شئت فقل إن مصر أصابتها لعنتان أثرتا على نموها ودورها ومكانتها، هما اتفاقية كامب ديفيد والهيمنة الأمنية على مقدراتها. ولا غرابة فى أن تعانى سيناء منهما معا، لأن الذى أصاب الأصل لا يستغرب منه أن يمد أثره إلى الفرع. من ثم فلا أمل فى أن تبرأ سيناء مما حل بها طالما أن معاناة مصر من اللعنتين مستمر. وهو ما يدعونا إلى قراءة المشهد على نحو مختلف، والتفكير فى مهماته بصورة أكثر جذرية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved