هويات معلبة!

خولة مطر
خولة مطر

آخر تحديث: الإثنين 27 يوليه 2015 - 1:05 م بتوقيت القاهرة

الحديث عن الهوية فى هذه اللحظات التاريخية قد يكون الأهم والأكثر إلحاحا وبروزا بين أزقة الخطابات النارية والمساحات المشتعلة. يقف أكثرنا بل ربما كلنا ومن بيننا جيل الشباب، الذى تصور يوما أن الخروج إلى الشارع ورفع الصوت عاليا ومناديا بـ«حرية- كرامة- وعدالة اجتماعية» هو قارب النجاة الأخير، لذلك البلد أو لكل المنطقة التى بقيت خارج المسار العام لمختلف دول العالم.
●●●

يقف الشاب بحثا عن هوية ضاعت عند طوابير العاطلين من العمل، أو عند أول رصاصة أو على وقع الاختناق بمسيل الدموع أو ربما عندما يتراكم جسده المتعب من شدة الضرب فى قاع زنزانة رطبة. يبحثون هم الذين استسهلوا لسنوات الهوية الجاهزة المعلبة التى سقى هو وهى بها منذ قطرة الحليب الأولى من ثدى أمهات ثكلى بالأدوار المخزنة فى التاريخ والمغمسة بالتقاليد والمغلفة دوما بالدين. ضاعت كل تلك الهويات المتراصة مع أول هبة ريح عاتية انتزعت كل شىء ولم تبق إلا جيلا ضاع بحثا وسعيا عن دور وعن هوية أيضا. وحده الدين ممثل فى جوامع ورجال دين بعمائم متنوعة وهم كلهم قادمون من الغرف المعتمة ليس بقراءة متخلفة للدين بل ربما بأموال منثورة هنا وهناك من قبل الأجهزة الحاملة لمسميات مختلفة وفى باطنها يجمعها جميعا هدف واحد أن يبقى القائم على رأس النظام وهم على كراسيهم الوافرة!!!!
●●●

الهوية عندما تكون مجرد شعار تفقد كل معانيها بل وحتى اختزانها بالروح والعقل معا. لا يمكن أن تكون الهوية هى موضوع لندوة سنوية أو مادة لنقاش فى الدوائر المغلقة بين من يدعون أنهم النخبة أو يرون ذلك.. النخبة التى خذلت هذا الجيل قبل الأنظمة وقبل الثورات وقبل ما يسمى الربيع. هى التى لم تعرف أن جيلا بل أجيال بأكملها همشها الاقتصاد والسياسة معا وكثيرا من العادات المتراكمة عند أطراف المدن تلك التى ما إن ترى اكتظاظا سكانيا وطبقات من الفقراء حتى تتسلل لها كالطاعون أو الكوليرا.
تقلص الكثيرون وتعبوا وهم غير مدركين أن أوطانا دون مواطنة هى أول الغيث نحو هكذا هويات متشعبة وهكذا هويات متقلصة حتى أصبح البعض يعرف هويته حسب طائفته وليس دينه وحسب حيه الصغير وليس بلده أو وطنه، وحسب الزقاق، بدلا عن المدينة الواسعة، تلك المدينة الكبرى التى كانت على مر التاريخ أول الطريق نحو الهوية الجامعة المجتمعة وليس الهوية التى تقسم وتفتت.
وربما لم تكن الهوية منسية بل طرحت للعديد من الحوارات المفتوحة ولكنها بقيت بعض الشىء حبيسة الخوف من الاتهامات السهلة المترصدة لأى قادم بطرح جديد أو حتى المتسائل العاشق للأسئلة المتساقطة من وحى التاريخ أو الجغرافيا فى بلد بل منطقة تخشى الأسئلة وتعتبر السائل خارج عن القانون حتى تثبت إدانته!!!!
●●●

يبقى أن الهوية هى ليست وسيلة لجمع «القطيع» أو بثقافة القطيع السائر الهائم خلف السارية، بل هى الباقية فى الوجدان عمقا وهى التى تسهل تعريفنا جميعا على اختلاف أدياننا وطوائفنا وقوميَاتنا وأجناسنا وألواننا وهى التى تسقط كل الحسابات الصغيرة والمتناهية الصغر وتبقى الصورة الأكبر والأكثر شمولا. ولكل ذلك علينا اليوم قبل أى وقت آخر أن نعود لنتعرف على هوية حقيقية لنا وليس هوية اللحظة أو الهوية المرتبطة بالسلطة أو التسلط أو ثقافة القطيع بدلا عن ثقافة المواطنة الحقة التى لم نعرفها حتى الآن بشكل واضح، وكثيرون يرددونها متوهمين أن التكرار سيقنع الكثيرين ومنهم الشباب الباحث المتعطش للهوية، إنهم مواطنون حقيقيون لا رعايا!!!
●●●

والهوية ليست جامدة بل متغيرة ومرنة وربما ليست واحدة شاملة جامعة كما قال شاعرنا الباقى دوما، شاعرنا الحاضر حتى فى غيابه:
لا الشرق شرق تماما
ولا الغرب غرب تماما
لأن الهوية مفتوحة للتعدد
لا قلعة أو خنادق
يبقى أن أكثر

كاتبة من البحرين

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved