عودة إلى السويس

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الإثنين 27 يوليه 2015 - 7:45 ص بتوقيت القاهرة

لا يصح أن يأخذنا صخب الأضواء عن قوة المعانى فى افتتاح قناة السويس الموازية.

الأضواء تغوى بمبالغات العظمة، حيث يجب أن تتأكد الإرادة الحرة.

هناك فارق جوهرى بين الاعتزاز والمبالغة، الأول يرد الإنجاز إلى شعبه ويؤكد ثقته فى نفسه، والثانى تبدد أى رهانات على المستقبل فى الألعاب النارية.

إننا بحاجة ماسة إلى تجديد ثقتنا بقدرتنا على البناء والإنجاز فى لحظة حرب ضارية مع الإرهاب.

إذا أفلت هذا المعنى يتبدد أى أثر إيجابى بأسرع من أى توقع أيا كانت عظمة الاحتفالات وأسماء الملوك والرؤساء الذين يشاركون فيها.

بحسب القاعدة المشهورة «كل ما يزيد على حده ينقلب إلى ضده».

بقدر ما تتأكد المعانى تأخذ احتفالات (٦) أغسطس المقبل قيمتها فى التاريخ.

دعونا نتذكر أن المصريين العاديين، الذين ينتسب أغلبهم إلى الطبقة الوسطى، جمعوا نحو (٦٦) مليار جنيه مصرى فى ثمانية أيام لتمويل قناة السويس الموازية، أو بالأحرى أكبر توسعة فى تاريخها.

حيث أحجم رجال الأعمال المتنفذين وتقدم المصرى العادى.

وكانت تلك رسالة بالغة الأهمية فى توقيتها ومغزاها، غير أنها لم تترجم حتى الآن فى أى سياسات اجتماعية جديدة.

ودعونا نتذكر أن الإنجاز الكبير جرى فى مواعيده المقررة دون تأخير.

هذه رسالة إيجابية أخرى يتعين أن تنتقل إلى بنية الدولة المترهلة.

ورغم الدور الجوهرى الذى لعبه الانضباط العسكرى فى سرعة الإنجاز إلا أنه من الضرورى العمل بأسرع ما يمكن على نقل أى مهمات من مثل هذا النوع إلى المجتمع المدنى، وأن يتفرغ الجيش لمهامه الطبيعية فى حفظ الأمن القومى.

بقدر ما تعود حركة المجتمع إلى طبيعتها تتأكد قدرة البلد على دحر الإرهاب والتقدم إلى البناء بالتوقيت نفسه.

البناء نفسها قضية مشروع قبل أى شىء آخر.

هذا معنى ضرورى حتى تأخذ أى إنجازات ممكنة قيمتها وإلهامها.

لا قيمة سياسية لأى إنجاز ما لم يرتبط برؤية للمستقبل.

كان تأميم قناة السويس قبل (٥٩) عاما بالضبط ملهما بقدر ما عبر عن الإرادة الحرة لبلد خرج للتو من احتلال بريطانى طويل استهدف قناته والسيطرة عليها.

من فوق منصة ميدان «المنشية» بالإسكندرية أعلن «جمال عبدالناصر» تأميم قناة السويس كأنه صاعقة هزت العالم.

فى (٢٦) يوليو عام (١٩٥٦) ولدت زعامته وسط تحديات قاسية بأى معنى سياسى وعسكرى أمام الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية، بالإضافة إلى إسرائيل.

من المثير أنه تعرض فى نفس المكان قبل عامين (١٩٥٤) لمحاولة اغتيال تورطت فيها جماعة «الإخوان المسلمين».

بحسب شهادة «أنتونى ناتنج»، وزير الدولة للشئون الخارجية فى ذلك الوقت، كان رئيس حكومته «أنتونى أيدن» يصرخ أمامه: «إننى أريد جثة ناصر.. أريده مقتولا».

لم تكن الحكومة البريطانية وحدها من تطلب رأس «عبدالناصر»، فقد كان لدى فرنسا الطلب نفسه انتقاما من دوره الجوهرى فى دعم ثورة الجزائر.

غير أنه على الجانب الآخر نهضت دول العالم الثالث والقوى الحرة فى العالم الغربى، فضلا على الاتحاد السوفيتى، لإدانة العدوان الثلاثى فهو يستهدف «حرية بلد تحرر أخيرا من الاستعمار، وهذا إلغاء للتاريخ لا يمكن التهاون معه «بتعبير الزعيم الهندى جواهر لال نهرو».

أدرك «عبدالناصر» عمق الجرح المصرى فى قناة السويس، ورهن حياته على دعم شعبه.

ثبت أن رهانه فى محله رغم كل المخاطر التى كانت تتهدده.

وقفت مصر خلفه وتطوع شبابها للحرب فى بورسعيد، وتسلح شعبها حتى لا تحتل مرة أخرى.

المثير أن الأسلحة التى وزعت على نطاق واسع جرى جمعها بسلاسة كبيرة بعد توقف العدوان.

بدت القضية كلها كبرياء وطنية لا تقاوم، وجرحا فى الضمير العام لا يندمل.

لم تكن قناة السويس لمصر التى حفرتها على مدى ستة عشر عاما متصلة فيما يشبه السخرة، وفق نص التعاقد الذى أبرمه «فرديناند دليسبس» مع الخديوى «سعيد».

مات نحو مائة ألف مصرى فى عمليات الحفر، وهو رقم مهول بالنظر إلى عدد السكان فى ذلك الوقت، نحو أربعة ملايين نسمة.

فى عهد الخديوى «إسماعيل» افتتحت القناة عام (١٨٦٩)، وبدا المصريون فى الحفل الباذخ أقرب إلى الديكور الشعبى أمام ملوك أوروبا.

عندما يذكر تاريخ «إسماعيل» لا تبقى فى الذاكرة العامة سوى الصورة الإمبراطورية التى كانت عليها احتفالات افتتاح قناة السويس.

وهذا إجحاف بحجم دوره.. فالقاهرة الحديثة هى «القاهرة الخديوية» وإنجازاته الأخرى فى البناء والتشييد لا تقل أهمية.

ما نحتاج إليه فى (٦) أغسطس أن تتخفف الاحتفالات من بذخها وأن تصب معانيها فى تأكيد الإرادة المصرية والعزم الجديد على البناء.

وهناك معلومات أولية تشير إلى مثل هذا التعديل فى طبيعة الاحتفالات.

الإرادة الحرة هى موضوع أى احتفالات وإلا فإنها تفقد رسالتها إلى المستقبل.

لم يكن تأميم قناة السويس فقط مسألة كرامة وطنية جريحة تطلب إعادة اعتبار.

فقد مكنت المصريين من بناء السد العالى من عوائدها والتوسع الكبير فى التصنيع الثقيل وزراعة الأراضى ووصول الكهرباء إلى كل بيت.

بتلخيص ما لم تكن القناة سوى خطوة فى مشروع امتد إلى كل مناحى تحسين جودة الحياة وإشاعة العدل الاجتماعى.

ما نحتاج إليه الآن أن نمتلك مشروعا مماثلا للبناء فى ظروف جديدة وأمام تحديات مختلفة.

التقدم إلى البناء تحت ضربات الإرهاب يستدعى تأكيد الاصطفاف الوطنى، وهذه مهمة ممكنة.

قوة أى اصطفاف وطنى فى تنوعه وتعبيره عن حركة مجتمعه.

وهو يعنى فتح المجال العام لا تضييقه، التأكيد على دولة القانون واحترام القيم الدستورية لا تنحيتها.

ويعنى إغلاق ملف الخصومة بين الدولة وشبابها، وأن تفرج عن المحكوم عليهم وفق قانون التظاهر المطعون على دستوريته.

ويعنى إعلان الحرب على مؤسسة الفساد بلا تعطيل إضافى.

ويعنى ملفات أخرى لا بد من حسمها والتقدم للأمام بثقة أكبر فى النفس والمستقبل.

بأى نظرة لحجم التحديات التى تعترض المستقبل المصرى فإنها تستدعى كل همة فى الإنجاز، لكنها تتطلب همة أخرى فى الرؤى والتصورات وصناعة التوافقات العامة.

وهذه رسالة جديدة فى العودة إلى السويس.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved