ملة إبراهيم حنيفًا

مدحت نافع
مدحت نافع

آخر تحديث: الإثنين 27 يوليه 2020 - 8:10 م بتوقيت القاهرة

فى موسم الحج من كل عام نتدبر من العظات الإبراهيمية ما شاء الله لنا أن نتدبر، ونكشف من أسرارها ما أراد الله لنا أن نكشف. وما إن رفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت، وما إن أذن إبراهيم فى الناس بالحج إلا وكتب الله لتلك البقعة المباركة أن تكون ملاذا ومهبطا ومستقرا لأفئدة الملبين، يأتون رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق.
شاءت إرادة الله أن تقيم السلطات السعودية هذا العام موسما محدودا لحج البيت وما اتصل به من مشاعر، يذكر التاريخ من الحوادث النادرة ما شق معه تلبية النداء على نحو استثنائى، لكن لا يعزينا ذلك عن حرمان الأمة من فريضتها الكبرى هذا العام، وحرمان الأراضى المقدسة والمشاعر الطاهرة من سنة جرت عليها منذ رفع الله البيت على سواعد رسوليه الكريمين.
وإن كانت فريضة الحج قد عزت على الجمع الغفير، فإن فضائل الهدى النبوى الشريف ونسائم الدين الإبراهيمى الحنيف يتلقاها من أسلم قلبه لله وإن لم يركب راحلة ولا طائرة. يقول المثل الدارج: «ربنا عرفوه بالعقل» والعقل أمانة الله استودعها البشر، وأعملها أبو الأنبياء خير الإعمال، فاهتدى بعقله إلى خالق الكون عن طريق البحث والتدبر والاختبار «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبا قَالَ هَٰذَا رَبِى فَلَمَا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ* فَلَمَا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغا قَالَ هَٰذَا رَبِى فَلَمَا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَمْ يَهْدِنِى رَبِى لَأَكُونَنَ مِنَ الْقَوْمِ الضَالِينَ* فَلَمَّا رَأَى الشَمْسَ بَازِغَة قَالَ هَٰذَا رَبِى هَٰذَا أَكْبَرُ فَلَمَا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِى بَرِىءٌ مِمَا تُشْرِكُونَ* إِنِّى وَجَهْتُ وَجْهِىَ لِلَذِى فَطَرَ السَمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
وكذلك امتلك إبراهيم (ص) من الحجة البالغة ما بُهت به الذى كفر إذ حاجه فى ربه، وهذا نحو من إعمال العقل والمنطق اختص الله إبراهيم وفضله به على كثير ممن خلق. وأظن ــ ولله العلم ــ أن اعتزاز إبراهيم بعقله الذى أمنه الله عليه قد حمله على أن يتثبت من البعث والنشور بعين اليقين فيطمئن قلبه «وإذ قال إبراهيم رب أرنى كيف تحيى الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبى» من هنا أحسب أن الله قد ابتلى رسوله فى عقله ليمتحن يقين قلبه، جاءه الوحى من الله بذبح ولده بعد أن بلغ معه السعى، وهو ابتلاء عظيم لا يحتمله أحد من العالمين إلا بيقين إبراهيم وقوة إيمانه. كذلك ابتلى كل نبى فيما آثره الله به عن خلقه، فابتلى يوسف عليه السلام فى حسنه لولا أن رأى برهان ربه، وابتلى يعقوب عليه السلام فى أبنائه فقال: «فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون»، وابتلى موسى عليه السلام فى قوته فكثر اقتران قصصه بالخوف والترقب فكلمه الله «خذها ولا تخف» وطمأنه شيخ مدين «لا تخف نجوت من القوم الظالمين» وابتلى سليمان عليه السلام فى سلطانه «وَلَقَدْ فَتَنَا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِهِ جَسَدا ثُمَ أَنَابَ»...
***
لكن تظل أمانة العقل حجة على كل إنسان فى أن يعرف ربه بصيانتها، وألا يشرك به شيئا وإن لم تبلغه الرسالات، صحيح أن الله قال فى قرآنه: «وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا» لكن هذا سياق آخر، ربما حمل على عذاب الدنيا دون الآخرة، وربما حمل على وجه آخر، ونحن أبعد ما نكون على أن نقيم للناس الموازين والحساب، فالله أعلم بمن خلق، لكننا فقط نذكر أن أمانة العقل التى حملها الإنسان وظلم لحملها نفسه كما لم تفعل السماوات والأرض والجبال، تلزمه أن يهتدى بعقله إلى الله الواحد، وألا يشرك به أحدا من العالمين، ولا تحسبن الأولين فتنوا بالشياطين فأشركوا بالله وعبدوها معه، بل قد فتن أشهرهم بالصالحين فعبدوهم مع الله ومن دونه، كذلك قوم نوح «وَقَالُوا لا تَذَرُنَ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَ وَدا وَلا سُوَاعا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرا» يقال أنها جميعا أسماء رجال من الصالحين افتتن الناس بهم وبسيرهم بعد موتهم فعبدوهم، ولا أحسب بوذا أو كونفوشيوس إلا كمثل هؤلاء وربما كانا من الأنبياء الذين لم يقصصهم الله على رسوله الكريم (ص).
من دروس حنيفية إبراهيم (ص) إذن أن نحتاط فى عصمة الأنبياء لكى لا نقع فى الشرك بغير علم، ومن العصمة ما سوغ به الجهلاء القهر وكبت العقول، ومرر به الأحاديث الموضوعة والفاشية الممقوتة، يقول عميد الأدب العربى طه حسين فى مقال له نشر بالهداية عام 1910 بعنوان «منصب الرسالة» ما هو منصب النبى (ص)؟ وما الذى يجب أن يعصم من الخطأ فيه؟ فلقد زعم أولئك الغلاة المفسدون أن النبى (ص) يجب أن يحيط علمه بكل شىء، وأن يعصم من الخطأ فى كل شىء فيتلو علينا الكتاب والحكمة ويدرس لنا اللغة والفلسفة ويعلمنا الصناعة والتجارة والزراعة... وكل ما تمس إليه حاجة الإنسان فى أولاه وأخراه، وهو بكل ذلك عالم، وفيه مبرز لا يسرى إليه الخطأ والظن، ولا يبلغ منه الشك والوهم، تعاليت اللهم وتقدست أسماؤك وجلت عظمتك عن الند والشريك».
ويقول فى مقال آخر تحت عنوان «تكذيب» نشر بصحيفة كوكب الشرق فى يونيو من عام 1933: «ولو عرفت فى الشيخ استعدادا لفهم الصلة بين العلم والدين ولإساغة لغة العلماء إذا تكلموا فى العلم لبينت له فى وضوح وجلاء أن ليس فى كتاب الشعر الجاهلى شر على الدين ولا كيد له ولا خروج عليه، لأن طرق الدين فى الإخبار شىء وطرق العلم فيه شىء آخر. وليس من الحق كما يظن الشيخ أن قضايا العلم يقينية بل الحق أن قضايا العلم ظنية، وآية ذلك أنها تتغير مع تغير العصور وتقدم العقل الإنسانى وقدرته على البحث والاستنباط، ومن هنا لم يكن من الخير ولا من المنفعة أن نصطنع التأويل للملاءمة بين العلم والدين، فالعلم لا يحتمل التأويل وتأويل النصوص الدينية للملاءمة بينها وبين العلم كلما تغير أو تبدل مفسد لهذه النصوص غاض منها، مخرج لها عما ينبغى لها من التقديس. فالخير أن يقبل الدين كما هو، وأن يفصل بينه وبين العلم، والخير ألا يتقيد العلماء بنصوص الدين فى بحثهم ودرسهم، لأن علمهم ظنى قابل للتغيير، والدين يقين لا سبيل للتغيير عليه».
***
هذا مقتطف من معارك الوعى التى خاضها منذ قرن من الزمان أحد رواد الفكر والأدب ممن ساهمت علوم الدين فى تكوينهم، ولم يدفع ذلك عنهم شيئا من رذالة الطاعنين المزايدين على الدين من الغلاة والمفرطين على السواء. تلك معارك قائمة حتى يومنا هذا لم يطرأ عليها شىء من التجديد، فقط أدواتها صارت أكثر حدة وأقل احتراما وأعظم كشفا عن جهل الطاعنين والمطعون فى عقيدتهم وفساد مذهبهم. ما الحط من قيمة العقل وإعماله إلا فساد فى مذهب من اتبع ملة إبراهيم حنيفا، وما انتفاع أخى الدنيا بعقله إذا رأى أنه مسير فى كل شىء، متبع لأى فكر، إمعة لا رأى له ولا فهم ولا حجة؟!
فى موسم الحج الذى حرمنا الكثير من خيره هذا العام، حرمنا منه أصغر مخلوقات الله فى أرضه، حسبنا أن نتدبر هذا العام حلية العقل التى تحلى بها رافع البيت من القواعد، وسنته الحميدة فى معرفة الله بأدوات العلم والمعرفة، التى أعقبها يقين فى القلب لا يتحرك وإن تحركت الجبال.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved