إحنا والقمر جيران
داليا شمس
آخر تحديث:
السبت 27 يوليه 2024 - 6:45 م
بتوقيت القاهرة
يشدني البحر إلى عالم الحرية. أتصور نفسي مثل بطلة من الأساطير لا تمل أبدا من الانتظار ومراقبة حركة المياه، لكن في ذلك الغروب شعرت بغصة في داخلي وأنا أتأمل الموجة التي تجري ورا الموجة عايزة تطولها كما تصفها الست في أغنيتها "فاكر لما كنت جنبي"، قبل أن تصل للنهاية السعيدة قائلة: "ما أحلى الوصال للي انتظر". أسرح بخيالي في اللون الأزرق الممتد الذي يُقرب ويبعد، يصل ويفصل، يأخذ ولا يرد أحيانا ما أخذ، فقد تجرف المياه الأشياء والأشخاص إلى حيث لا ندري... هو جزء من "جنوب المتوسط" الذي كثر الحديث عنه أخيرا بسبب اسماء بعض المشروعات السياحية في الساحل الشمالي.
أتوقف عند التسمية، هو جنوب المتوسط بالنسبة لمن؟ لأوروبا والدول المتقدمة، للجيران، أما بالنسبة لنا فهو امتداد لشواطىء الإسكندرية حتى الحدود الليبية، هو بحر الهوى الذي تغنى به المطربون ورددنا وراءهم وحفظنا الكلمات عن ظهر قلب. غنينا مع فيروز "شط إسكندرية يا شط الهوى"، ومع محمد رشدي "دايما يا بحر تخبي أسرارنا، ولا عمرك مرة بتحكي أخبارنا"، ورافقته نجوى فؤاد رقصا "ع الرملة" وهو متوجس من الموجة الجاية "لَتهد الرملة.. وتهد قصور وياها". وصارت ليلى مراد في أذهاننا هي صاحبة صخرة "شاطىء الغرام" حيث أنشدت "بحب اتنين سوا الميه والهوا". واستمرينا في ترديد هذه الأغنيات وغيرها، رغم الحديث المتكرر عن تآكل شواطىء المتوسط بسبب التغيرات المناخية، وعن الممارسات الضارة بسبب توغل الزحف العمراني، وعن تراجع عدد "البلاجات" العامة من 67 بالإسكندرية عام 2015 إلى 13 في 2021، ومن 30 إلى 11 في مرسى مطروح خلال الفترة نفسها، وعن المقارنات الطبقية بين أهل الساحل الطيب والساحل الشرير كما أطلقنا عليهما للفصل بين مساحات الأغنياء والفقراء ومتوسطي الحال.
• • •
تختلط في رأسي الأغنيات بسياسات الجوار والإحباطات المتتالية التي رافقتنا منذ أن حصلت دول جنوب المتوسط على استقلالها وتحررت من الاستعمار في خمسينيات وستينيات القرن الفائت. حلمت هذه الشعوب ونحن من بينها بأن يكونوا جزءا من مجتمع دولي أكثر عدلا وأن ينعموا بخيرات بلادهم الطبيعية. حاولوا فرض مطالبهم ووجودهم، وبالفعل تبدلت السياسات أو شهدت تعديلات لتتماشى مع الأوضاع الجديدة. لكن لم يكن مصيرنا قط مثل الأحبة في أغنية أم كلثوم الذين اشتكوا حالهم للبحر اللازوردي و"صبروا ونالوا"، بل ظلت الموجة تلهث وراء الموجة دون أن تطالها.
تمت صياغة سياسات جوار متعاقبة إلى أن وصلنا لعام 1995، السنة التي تم خلالها توقيع اتفاقية أوسلو 2 بمدينة طابا المصرية، وتدشين الشراكة الأورومتوسطية في مؤتمر برشلونة. كان الإعلان وقتها عن تحديد منطقة مشتركة للسلام والاستقرار عبر تعزيز الحوار السياسي والأمني ودعم حقوق الإنسان والديمقراطية، إضافةً إلى الرغبة في إنشاء منطقة للتجارة الحرة وتوطيد العلاقات الاقتصادية. تعددت الإشارات لجنوب المتوسط في إطار سياسة أوروبا للجوار، ليشمل عشر دول عام 2004: الجزائر ومصر وإسرائيل وفلسطين والأردن ولبنان وليبيا والمغرب وتونس وسوريا (إلا أنه تم تعليق التعاون الرسمي مع هذه الأخيرة بسبب تفاقم الأوضاع السياسية بعد انتفاضات الربيع العربي، وازدادت الظروف تعقيدا في الدول الأخرى ما راكم التبعية والاعتمادية).
وجه الاتحاد الأوروبي حوالي عشرين بليون يورو لتمويل الشراكة مع دول الجنوب ما بين 2007 و2020، وأعلن عن رصد 12 بليونا أخرى لتدعيم أولوياته في المنطقة حتى 2027. وكانت هذه الأولويات بالدرجة الأولى تهدف إلى تحقيق أمنه، ولكن الأمن بمفهومه الأوسع والقائم على عدة محاور، إذ لا يقتصر فقط على الجانب العسكري بخلاف سياسة الولايات المتحدة الأمريكية وتصورها لطبيعة العلاقات، فالأمن بالنسبة لأوروبا يشمل مشكلات يتم تصديرها عبر الحدود المباشرة معها مثل التطرف والإرهاب والمخدرات والهجرة غير الشرعية والأخطار البيئية، وكل هذه الملفات مرتبطة بتحسين الأحوال الاجتماعية والاقتصادية لسكان جنوب المتوسط، حتى لا يشكلوا مصدر إزعاج دائم لدول الشمال.
وبالتالي تتفق دول منظمة حلف شمال الأطلسي، في أنحاء أمريكا الشمالية وأوروبا، على أن جنوب المتوسط هو مصدر للقلق والتهديدات والصراعات، لكنهم لا يعتمدون سياسة موحدة لدرء هذه الأخطار. الولايات المتحدة تفضل السيطرة على المنطقة بواسطة القواعد العسكرية لتأمين مصالحها ومصادر الطاقة وحماية إسرائيل، وأوروبا تعتمد سياسة أمنية متشعبة المحاور تختلف من دولة لأخرى بحسب البعد الجغرافي وتاريخ العلاقات. وهي لم تفلح في منع المهاجرين من تحقيق حلم السفر إلى الضفة الأخرى من المتوسط حيث رغد العيش، إذ دخل إيطاليا عبر الحدود المصرية 4154 مهاجرا، وفق إحصائيات سنة 2022، في مقابل 1543 قبل عام واحد، على سبيل المثال.
• • •
شباب في مثل عمر نجم الراب، ويجز، وربما أصغر سنا، يرددون معه: "الموج عالي بس سباح وأعوم، واللي يعيش بقى ياما يشوف، من صغري عارف أنا مين وفخور (...) عطشان وباستنى تغيير، بشوفني نجم وعندي حلم، وليه نستنى نبقى كبار". وفي المقابل كبار وأجانب يشترون بيوتا بالملايين في جنوب المتوسط، يعيشون فيها بضعة أشهر أو أيام في السنة، قد يشدون الرحال إلى أي مكان آخر حين يحلو لهم، ولا ينتمون بالضرورة للمكان أو يحفظون تضاريسه، لكن تعجبهم فكرة أن يكونوا "جيران القمر" ويشكلون منطقة عازلة بين الشمال والجنوب.. مصدا يخفف من تلاطم الأمواج.