عسكرة الحياة السياسية فى مصر

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الخميس 27 أغسطس 2009 - 5:26 م بتوقيت القاهرة

 إذا كانت الآراء تختلف فيما إذا كانت الخلفية العسكرية للرئيس مبارك والسمات السابقة لدور العسكريين فى نظام الحكم فى مصر تكفى لوصفه بأنه نظام عسكرى، إلا أنه قد لا يكون هناك شك من ناحية أخرى فى أن الأسلوب الذى يتبعه فى إدارة الحياة السياسية هو أسلوب عسكرى، بل ريما يمكن القول إنه أقرب إلى أسلوب إدارة العمليات الحربية. وربما عفا الزمن فى بعض المؤسسات العسكرية فى الدول المتقدمة على هذه الأساليب، ولكن لهذه الأساليب تاريخ موغل فى القدم فى تاريخ المؤسسة العسكرية المصرية، وقد انتقل منها إلى الحياة السياسية. وإذا كان مفهوما اتباع هذا الأسلوب فى السنوات الأولى للثورة بحكم قيادتها العسكرية والمقاومة التى لقيتها من أحزاب وقوى المعارضة التى عرفتها مصر الملكية، إلا أن استمرارها فى دولة تدعى الأخذ بنظام تعدد الأحزاب، وبعد انتهاء فترة الحكم الثورى ليثير التعجب حقا.

فالمؤسسات العسكرية تتسم بعلاقات الأمر والطاعة، وقراراتها تصدر فى سرية تامة، ولا يعرف أحد ما إذا كانت قد خرجت نتيجة مناقشة أم أن عبقرية القائد الملهم هى سندها الوحيد، كما أن من علامات نجاح القرار العسكرى فى حالة الحرب أن يكون مفاجئا، وأن يحتار العدو فى فهم دوافعه أو مرماه، ولا يعتمد تنفيذ القرار على قناعة المطلوب منهم تنفيذه ولا الذين صدر فى مواجهتهم، لأنهم إن لم يقتنعوا به، فاستخدام القوة والإفراط فى استخدامها هو الضمان الأخير لتنفيذ هذا القرار. فإذا كان من يصدر هذا القرار فى مواجهتهم لا يملكون قدرا مماثلا من القوة، فليس أمامهم سوى أن ينصاعوا له صاغرين.

*****

هناك أمثلة عديدة على اتباع مثل هذا الأسلوب ابتداء من تغيير الوزراء والوزارات. ألم يكن قرار تعيينهم وخروجهم من الوزارة فى عهد الرئيس مبارك مفاجئا لهم وللرأى العام؟. هل يعرف أحد سوى الرئيس حسنى مبارك أسباب تعيين وخروج الدكتور كمال الجنزورى، أو الدكتور عاطف عبيد أو تعيين وبقاء الدكتور أحمد نظيف رئيسا للوزراء؟.. وهل اهتم أحد بشرح أسباب خروج الدكتور أحمد جويلى أو محمود أبوزيد؟.. وهل يعرف أحد سوى الرئيس حسنى مبارك لماذا لم يذهب إلى قمة الاتحاد الإفريقى التى عقدت أخيرا فى ليبيا على الرغم من إعلان أجهزة الإعلام أنه كان ذاهبا إليها؟.. وهل اهتم أحد بشرح أسباب هذه القرارات المفاجئة؟

وعلى الرغم من أن نظام الحكم فى مصر يدعى الاستناد إلى حزبه المسمى بالوطنى والديمقراطى، إلا أن أيا من قيادات هذا الحزب وجماهيره لا يملك تفسيرا مؤكدا لهذه القرارات. وعلى الرغم مما يقال فى أجهزة إعلام هذا الحزب عن تطور كبير شهده، إلا أن علاقات الأمر والطاعة هى التى تسوده بالنسبة لهذه المسائل، ولا يملك أعضاء الحزب على كل مستوياتهم طرح أى سؤال يتعلق بما يرونه أمورا تخص قيادة الدولة. وأذكر فى هذا السياق أن الصديق العزيز الدكتور عبدالمنعم سعيد، والذى يفخر بانتمائه إلى الحزب الوطنى الديمقراطى تساءل مرة فى أحد اجتماعات ما يسمى بالمجلس الأعلى للسياسات عما إذا كان كبار المسئولين قد أخذوا فى الاعتبار صدى إلقاء القبض ومحاكمة الدكتور أيمن نور، ولم يتلق جوابا شافيا فى هذا الخصوص، ولكن الأمر المهم أن أيا من أعضاء هذا المجلس المهمين لم يشأ أن ينضم إلى الدكتور عبدالمنعم سعيد فى طرح هذا السؤال رغم الصدى السلبى لذلك القرار. لأن علاقات الأمر والطاعة التى تسود داخل الحزب وفى الحياة السياسية المصرية تسمح لأعضاء الحزب مثلا بالتساؤل عن أحوال المرور، ولكن لا تسمح لهم بمساءلة القيادة الحكيمة عن أمور تريد هى أن تظل قيد الكتمان، رغم أن أسانيد الحكمة لا تبدو واضحة فى هذه المسائل.

ولدينا فى الوقت الحاضر مثل بارز على هذا الأسلوب فى النقاش المحتدم بشأن مصير مجلس الشعب. رئيس مجلس الشعب ذاته لا يعرف ما إذا كان المجلس الذى يرأسه باقيا أم أنه فى طريقه إلى الحل، لأنه فى تصريحاته الصحفية، وبعد فذلكته القانونية فى قضايا معروفة للجميع، وهى أن حل مجلس الشعب لا يجوز إلا فى حالة الضرورة، وهى غير قائمة، إلا أنه، وهو يعرف من يتخذ القرار السياسى فى مصر، يعود ويستدرك، ويخرج علينا بهذا الاستثناء، المعروف أيضا للجميع والذى لا سند له من القانون، فيضيف أن حل مجلس الشعب جائز عندما يزمع رئيس الدولة إطلاق مشروع سياسى جديد.. فى هذه الحالة لا حاجة للضرورة أو الدستور، فقد شاء رئيس الدولة، وعلى الدولة شعبا وحكومة أن يطيعا.. هنا كما هو الحال فى المؤسسة العسكرية التقليدية، يحتفظ القائد وحده بالسر، ولا يناقشه مع أحد، ويعلن قراره فى الوقت الذى يختاره، وعلى نحو يفاجئ به الجميع. دون أن يهتم بشرح لماذا اتخذ القرار، يترك ذلك لمعاونيه إن شاءوا، وذلك ليس أمرا مهما لأن ما قرره نافذ، حتى بالقوة إذا ما استلزم الأمر.

والقدرة على القهر موجودة فى كل حال، يعرف بذلك المحكومون فيستسلمون لها دون أن تستخدم بالضرورة ضدهم، لأنهم يعرفون بحتمية استخدامها إذا بدا منهم الاستعداد للمقاومة. إلا أن العجيب حقا هو استخدام هذه القوة حيث لا ينبغى أن تستخدم، وتحديدا عندما يمارس المواطنون حقهم فى الترشيح أو الانتخاب. قوات الأمن المركزى موجودة فى انتخابات مجلس الشعب، وفى انتخابات نوادى هيئات التدريس الجامعية، وحتى فى انتخابات الغرف التجارية بحسب ما ورد فى الصحف، وكما شاهده كاتب هذه السطور. وكذلك عندما يمارس العمال أو الفلاحون أو الطلبة حقهم المشروع فى الاحتجاج السلمى بالتظاهر أو الإضراب.

*****

السبب والنتيجة

شرح أسباب عسكرة الحياة السياسية فى مصر يطول، ولكنه يرتبط جزئيا بصعود العسكريين إلى مسرح السياسة فى مصر مع ثورة 23 يوليو 1952، ولعلنا نذكر شرح الرئيس جمال عبدالناصر فى فلسفة الثورة ما توقعه من رد فعل الجماهير والقيادات الحزبية. هو توقع أن تأتى الجماهير وراء الجيش صفوفا متراصة مستعدة للسير وراءه، كما لو كانت تشكل هى أيضا جيشا ثانيا يمضى مع الجيش الأول وقادته من الضباط الأحرار نحو المستقبل الزاهر للوطن، فى «اتحاد ونظام وعمل». وهذا لم يحدث، لم تأت الجماهير صفوفا متراصة، بل جاءت مكانهم جحافل من رجال السياسة ينتقد بعضهم بعضا. لقد ثار عبدالناصر على هذه الأوضاع، وحاول بعد ذلك أن ينظم جيش الجماهير على النحو الذى يعرفه، وهو الانضباط العسكرى، وعلاقات الأمر والطاعة، فى هيئة التحرير، ثم فى الاتحاد القومى، ثم فى الاتحاد الاشتراكى العربى. وعندما بدا أن الاتحاد الاشتراكى ومنظماته فى طريقه لأن يصبح حزبا يملك إرادة مستقلة، تصدت له القيادة العسكرية وقيادة عبدالناصر ذاته، وألجمته، حتى أصبح من السهل على الرئيس السادات بعد موت عبدالناصر أن يحل الاتحاد الاشتراكى وأن يبتعد عن الاشتراكية دون مقاومة. صحيح أن عبدالناصر لم يكن بحاجة للتعويل على هذا الأسلوب العسكرى فى كل الحالات لأن شعبيته العارمة كانت تضمن تأييد المواطنين أو أغلبيتهم لسياساته.

ولكن كل رؤساء مصر ذوى الخلفية العسكرية لم يدركوا أن الحياة السياسية تختلف عما خبروه فى معسكرات الجيش. السياسة هى الاختلاف، وتصارع الأفكار والآراء وبدائل السياسات سلميا، والوصول إلى الاتفاق السياسى هو من خلال الحوار والالتقاء عند الحل الوسط من خلال إقناع الأطراف الأخرى بوجاهة بعض مطالب كل طرف. والاختلاف مشروع لأنه تعبير عن مصالح أو توجهات متباينة، وليس هناك مصلحة جزئية تسمو على مصالح كل الأطراف الأخرى، ولا يملك أى طرف احتكار الحقيقة، فلكل طرف حقائقه، أو تفسيره المشروع للحقائق العامة.

وعندما يجرى إغفال هذه الملاحظة البسيطة يكون الثمن باهظا. تفتقد سياسات الدولة تأييد المواطنين، وتقل مشاركتهم فى مؤسساتها، ولا يميل المواطنون إلى الدفاع عن سياساتها، وفى غياب هذه المشاركة تفقد سياسات الدولة وسيلة تصحيح أخطائها، وتستمر فى اتباع سياسات غير واقعية، وعندما تفشل هذه السياسات، وهو أمر جد محتمل فى هذه الظروف تنمو مقاومة المواطنين لها، فلا تجد الدولة من وسيلة لدفعهم لتنفيذ سياساتها سوى المزيد من استخدام قدرتها على القهر حتى تفقد الدولة شرعيتها تماما، ويصبح انهيار نظام الحكم فيها مسألة وقت.

وهذا الوقت يمكن أن يطول طالما ينصرف المواطنون عن نظام الحكم، لا يعيرونه كبير اهتمام، كما هو حادث فى مصر الآن، فقد أصبح الشأن العام مثار اهتمام قلة محدودة من دعاة الحزب الوطنى وقيادات الأحزاب وبعض الحركات الاحتجاجية فى مجتمع مدنى ناشئ. ولذلك لن تحل السياسة بأساليبها المعهودة من الحوار ومحاولة الوصول إلى الحلول الوسط والاحتكام إلى المواطنين فى انتخابات حرة نزيهة إلا عندما يثبت المواطنون من خلال تجمعاتهم ومنظماتهم وأحزابهم أنهم يملكون قوة تردع الحكام، وتضع حدودا لما يمكن أن يقوموا به دون التشاور مع المواطنين مباشرة أو من خلال ممثليهم. فمتى يحدث ذلك فى مصر، وتحل السياسة محل العسكرة؟ هذا يتوقف على إرادة وفعل المواطنين وقياداتهم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved