الدولة الخفير والدولة البستانى

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الخميس 27 أغسطس 2009 - 5:34 م بتوقيت القاهرة

 يحدثنا علماء الاجتماع بأن هناك نوعين من الدول الخفير والبستانى. الأولى هى التى تضع الأمن فى المقام الأول وترفض ظهور قوى معارضة يمكن أن تهدد وجودها وكيانها، بالإضافة إلى قيامها مثل بضبط كل شىء والتدخل فى كل أمر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ولا تستطيع أى جماعة وطنية أن تقيم لذاتها كيان دون الإشراف من الدولة. هذه الدول جاءت نتيجة للديكتاتورية والفاشية منذ الحرب العالمية الثانية، وإن كانت الديكتاتورية والفاشية قد اندثرتا فى شكلهما التقليدى لأسباب عدة، إلا أن هناك دولا ما زالت تؤمن بمبادئ الدولة الخفير، وإن كانت تتبنى الديمقراطية كنظام شكلى ظاهرى، فتسمح للأحزاب بالقيام ولكن بشروط معينة، وتعطى للشعب حرية التظاهر والاحتجاج، ولكن فى حدود، بل لديها حرية صحافة وحرية إعلام. لكن هنا تكون الرقابة غير مباشرة من خلال إصدار قوانين سيئة السمعة مثل العيب والحسبة والازدراء.. إلخ، أو خلال لوائح داخلية لهذه المؤسسات والجهات تحكم بها الحركة.

أما الدولة البستانى، فحدودها هو رعاية كل الزهور حتى تتفتح دون التدخل المباشر، بل هى تساعد هذه الزهور بالرى والعناية. والذى يثبت فائدته للشعب والأمة سوف يستمر وبقوة لان الشعوب سوف تؤيده، والذى يثبت استغلاله لمناخ الحرية لتحقيق منافع خاصة فسوف يضمحل تلقائيا، وما على الدولة والحكومة إلا رعاية كل المؤسسات وكل التوجهات ومحاولة التوفيق بينهم والاستفادة منهم فى تعضيد التوجه الصحى للدولة من تمكين للحرية والديمقراطية.

ولقد ظل الصراع قائما بين الدولة الخفير والدولة البستانى وأيهما أفضل لعدة عقود، فتحولت بعض الدول، التى تبنت فكر الخفير إلى القمع المباشر لقوى المعارضة، وتحولت بعض الدول التى تبنت فكرة البستانى إلى فوضى. من هنا جاءت الدعوة إلى العنف فى الدولة البستانى. فبعد كانت الولايات المتحدة الأمريكية هى النموذج الأمثل للدولة البستانى، تحولت بعد 11 سبتمبر 2001 إلى تبنى العنف سواء داخليا أو خارجيا. فداخليا بعدما كانت تتبنى نظرية بوتقة الانصهار والتى تنصهر فيها جميع الشعوب المهاجرة إليها فى بوتقة الحضارة الأمريكية، تبنى علماء الاجتماع فيها فكرة طبق السلطة، أى كل جنس أو عرق من المهاجرين يبقى بعاداته وتقاليده، لكنه يتجاور مع الشعوب الأخرى دون انصهار حقيقى، فكان الرد هو ظهور العنف فى الداخل، أما فى الخارج فكانت حرب العراق وغزوها لأفغانستان.. إلخ. وما فعلته الولايات المتحدة جعل العالم يعيد النظر فى جدوى الدولة البستانى، وفى مدى شرعية العنف لدى الدول سواء داخليا أو خارجيا. بل بدأت الولايات المتحدة تشجع الدول، التى تستخدم العنف لقمع معارضيها داخليا وخارجيا، ولكن دون التصريح بذلك بوضوح.

وبعد أن كانت تفرض عقوبات على الدول القامعة لشعبها خففت كثيرا من هذا الأمر بل أقامت علاقات أكثر حميمية معها، وأعطت شرعية لكل دولة تمارس مثل هذا العنف بدعوى حماية أمنها على أساس أن هذا العنف يكون شرعيا فى آلياته مثل الشفافية فى التحقيقات وفى إصدار القوانين أو اللوائح. وهكذا طورت كل دولة رقابتها وضبطها من خلال إبداع أساليب جديدة للرقابة الأمنية على الأفراد وفتح ملفات لكل السكان تقريبا، واعتماد أرقام قومية أو وطنية، لكى يكون كل فرد بتفاصيله على الحاسب الآلى تحت إمرة المراقب، وكل هذا بادعاء ضمان الحد الأدنى للاستقرار. وهكذا ظهر تعبير القوة الأمنية الناعمة من خلال التصنت ومراقبة حركة الأفراد والجماعات من على البعد حتى لا يشعر المراقب بها. ولا شك إن هذا الأسلوب فى الدول المتقدمة يسير بشكل به كثير من الشفافية وتحت رقابة الصحافة والإعلام، مثل ما حدث فى حالات التعذيب فى سجن أبوغريب وجوانتانامو أو فضيحة ووترجيت عندما تجسس نيكسون على معارضيه. وفى كل مرة من هذه يدوى الأمر كفضيحة للنظام وتهبط شعبية الرئيس. فإذا كان نيكسون قد استقال فإن جورج بوش قد انتهت شعبيته، وخرج من الرئاسة بعد انتهاء مدته الثانية غير مأسوف عليه بعد أن وصلت شعبيته إلى أدنى حد فى تاريخ الرؤساء الأمريكيين.

أما فى العالم الثالث فالمشكلة ضخمة، إذ إن الأمن سواء كان مباشرا أو غير مباشر، سواء قوة ناعمة أو غير ناعمة، يعمل لا لصالح استقرار الديمقراطية ولكن لصالح استقرار الحكم. ذلك لأنه كما ذكرنا قبلا لا يوجد فى هذه البلدان تداولا للسلطة ولا ديمقراطية حقيقية أو فصل حقيقى بين السلطات. هنا يصبح مفهوم الأمن القومى هو أمن الطبقة العليا، أى الحكام، والذين لهم علاقات مباشرة أو غير مباشرة معهم، وأصبح مفهوم الأمن القومى هو أمن الحزب الحاكم. وبالطبع هذه الدول لم تطور من أساليب وآليات الأمن لأسباب عدة منها فقر الإمكانات ومحدودية الذكاء الأمنى وعدم حيادية أفراده سواء فى علاقة الحاكم بالمحكوم أو علاقة المحكومين بعضهم البعض، حيث يشكل انتماء أفراد الأمن الدينى أو العرقى توجهاتهم نحو الآخرين. وفى هذه البلدان تتعدد الأجهزة الأمنية حتى يمكن أن تصل إلى عشر جهات، هذا غير جهات أمنية خاصة يمكنها تجاوز كل هذه الأجهزة. ولا شك أن سطوة أجهزة الأمن فى العالم الثالث، خاصة فى العالم العربى والإسلامى أدت إلى احتواء المؤسسات الدينية حتى تردد هذه المؤسسات توجهات الدولة وهكذا يتحقق الأمن والاستقرار. ولقد تم هذا فى مصر بوضوح عندما اصطدم الوالى محمد على بشيخ الأزهر، الذى كان يتم اختياره بالانتخاب، فقام الوالى بتغيير النظام إلى تعيين شيخ الأزهر. والذى طالما تقوم الدولة بتعيينه يصبح موظفا حكوميا وكل عمله هو تبرير قرارات الدولة من الناحية الدينية وإصدار الفتاوى لاستقرار الأمة.. والتى لخصها مأذون القرية فى رائعة صلاح أبوسيف (الزوجة الثانية) عندما أراد العمدة تطليق زوجة فلاح فقير جميلة وصغيرة السن ليتزوجها العمدة، وذلك لتحقيق الأمن القومى، وهو إنجاب طفل للعمدة يرث الأرض والبشر، حيث يقول المأذون حسن البارودى للزوج المقموع شكرى سرحان ليحثه على توقيع وثيقة الطلاق (امضى، امضى، يقول الله فى كتابه الكريم «وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولو الأمر منكم).

وهو نفس ما تردده المؤسسة الدينية المسيحية بعد اتفاق واضح تم فى الثمانينيات من القرن الماضى، لذلك نجد أنه من الصعوبة بمكان إعادة تثبيت عقل مصر فى رأسها إلا بالدعاء الشعبى (يا مثبت العقل فى الرأس).

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved