الغناء فى حضرة الشهيد

محمد موسى
محمد موسى

آخر تحديث: الأربعاء 27 أغسطس 2014 - 12:11 م بتوقيت القاهرة

بعد أن استمعت إلى هذه الأغنية قبل أيام، ارتكبت إحدى الكبائر وأنا أقول لنفسى: هذا العمل أرقى وأكثر إنسانية من مشوار أم كلثوم كله.

وقبل أن أترافع عن جريمتى التى تمس مقدسات شعبية، أقول إن هذه الجوهرة المدفونة تحت ركام يوتيوب وجدتها بمصادفة. كنت أبحث عن ذكريات السمسمية فى الإسماعيلية، فوجدت الموقع يقترح: بتغنى لمين يا حمام، للمطربة شيرين عبده.

أكورديون جبار يستلمنا من الفراغ إلى نافورة وجع بليغ. ليس شعبيا مبتذلا «يقطع القلب»، كما قال شكوكو لعازف أكورديونه ساخرا. ولا يسرق أناقته من تقنيات الأكورديون الغربى، الغجرى أو الجازى. الدف يعلن عن وجوده برفرفة تصاحب أول «يا ليل» من شيرين:

بيقولوا: كان فيه فرد حمام

ما لحقش يدخل مركب نوح

من يومها لما يغنى حمام

يبقى بيبكى عليه وينوح

الصوت الشجى يعلن عن موهبة كبيرة، أقوى ما فيها الإحساس بما تغنى، واللمحة الشعبية الراقية التى تضعها بين أكبر أصوات الغناء الشعبى.

يبدأ الإيقاع بعناق البيس جيتار مع الدف، والأكورديون حرير حزين يلف سؤال الأغنية، ويتحاور معه:

بتغنى لمين ولمين يا حمام؟

السؤال وجع فى حد ذاته. كلمات فاخرة من نسيج الكلام العادى، سرعان ما تكشف عن لوعة فقد، وأمل متردد:

اتأخر عنى ولا رجعشى

ع المغرب كان بيعود يا حمام

لو كان فى النية انه حيمشى

ليه ساب الباب مردود يا حمام؟

الغائب لن يعود: عن المرحوم خالد سعيد نتحدث.

عن أيقونة ثورة يناير، فالأغنية مهداة إلى السيدة والدته، بعد أسابيع من استشهاده فى 2010. اخلع نعليك وخفف الوطء، فأنت بحضرة شباب خرجوا انتصارا للحياة، فرجع البعض، واختفى البعض فى رحاب الشهادة والمعتقل والسجن.

الحبل سايب

والعدل غايب

والناس ماهماش ناس يا حمام

اللحن مستوحى من الأصل الشعبى بتصرف يزيد من حرارة السؤال فى المذهب، ويجرح القلب مع تسليمة الكوبليه الحزينة:

ليه الليلة دى

حسك مش عادى؟

أبدأ مرافعتى بأننى لا أعرف فريق العمل الرائع، لكننى أحسستهم رفاق البهجة والبكاء مع السمسمية. زملاء الحزن على بلدى فى سنوات الموت البطىء، وجيرانى فى ميادين الغضب بعد ذلك، لكنهم أفضل منى ومن أى فنان أمضى حياته فى الحب والهجر، فقد أوصلوا رسالتهم بكل هذا الصدق والحنان.

وأواصل مرافعتى بأن أم كلثوم لم تجرؤ على جرح مشاعر أى سلطة بالغناء لرموز شعبية مثل الشهيد خالد. كبار مطربينا على مر العصور، من عبدالوهاب وحليم، إلى عمرو دياب وأنغام، يغنون للحاكم فى عيد جلوسه وميلاده وختان أنجاله، ولا يخطر فى بالهم أن يغنوا لمن يعارض الحاكم، فهم غير مستعدين للثمن.

وأواصل مرافعتى بأن المطرب، مثل الشاعر والصحفى ورسام الكاريكاتير ومذيع التوك شو، ينحاز للنظام، فيسجل نقاطه فى قوائم الرضا والغضب الحكومى، ويحصل على مكافأته الفورية من الانتشار والتسهيلات. «المطرب الرسمى يصنع من نسيج جلودنا وتر الكمان، ويطرب المتفرجين»، الذين هم الحكام، كما قال درويش. المطرب الرسمى لا يهتم بمن اختفى فى رحاب الشهادة والمعتقل والسجن، لأن السلطة تريد أن ننساهم.

إذا لم تكن مرافعتى كافية، أضيف: استمعوا إلى أغنية شيرين وزملائها الخمسة أولا، يغنون للشهيد.

 

لسماع أغنية بتغنى لمين يا حمام، للمطربة شيرين عبده

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved