بدائل السياسات العامة فى مصر

أحمد عبدربه
أحمد عبدربه

آخر تحديث: السبت 27 أغسطس 2016 - 9:15 م بتوقيت القاهرة

أحد المعايير المهمة للحكم على مدى قدرة التيارات المعارضة أن تحكم مصر هو أن تكون قادرة على تقديم بدائل للسياسات العامة الموجودة فى مصر حاليا. أعنى بذلك، ليس مجرد تقديم الطرح أو الرؤية أو التصور لمحتوى السياسة، ولكن القدرة أيضا على وضع خطة لتحديد تكلفة هذه البدائل وأدوات تنفيذها ومن ثم القدرة على تطبيق هذه الرؤى حال الوصول إلى السلطة أو المشاركة فيها بصيغة أو بأخرى.

الخبرة من فبراير ٢٠١١ وحتى انتخاب رئيس الجمهورية فى يونيو ٢٠١٤ تقول إن التيارات المعارضة والثورية تباينت بين عدم وجود رؤية لديها لبدائل السياسات على الإطلاق، أو وجود رؤى جزئية غير متعمقة، أو وجود رؤى كاملة ولكنها لم تضع فى الاعتبار التكلفة المتوقعة سياسيا واقتصاديا ومجتمعيا وما إذا كانت قادرة بالفعل على القيام بها!
النوع الأول من التيارات المعارضة ركز وانشغل كثيرا بالشعارات وخصوصا وأن الأخيرة فى الأشهر الأولى لثورة يناير كانت خيار قليل التكلفة كبير التعبئة للجماهير، ولكن خواء هذه الشعارات من محتوى أو تصورات وتفاصيل هو نفسه أحد أهم أسباب الثورة المضادة التى قادتها الجماهير بنفسها بعد أن تم رفع توقعاتها ثم لم تجد إلا السراب. أما النوع الثانى من التيارات المعارضة فكان لديها بعض التصورات الجزئية عن بعض بدائل السياسات العامة ولكنها لم تكن على أدنى قدر من المعرفة بتعقيدات الأرض والمعادلة على الأرض والتكلفة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، فغرقت فى أحلام المشاريع الكبرى التى لم تكن إلا بضعة أوراق مكتوبة على عجل، ولعل المثال الأبرز على ذلك مشروع المئة يوم الأولى من حكم الرئيس الأسبق محمد مرسى، فضلا عن مشروع النهضة! ثم تأتى بعض التيارات المعارضة الأخرى التى قدمت بالفعل رؤى شاملة لبعض السياسات العامة، خصوصا المالية منها والأمنية، ولكنها افتقدت أيضا القدرة على تقديم رؤى واقعية لحساب التكلفة على الأرض، فضلا عن أنها لم تستطع تنفيذ ذلك لظروف سياسية معقدة وتحديدا فى الفترة من بعد ٣٠ يونيو وحتى انتخاب الرئيس فى صيف ٢٠١٤.

وهكذا نحن أمام ثلاث تجارب متنوعة كللت جميعا بعدم النجاح: التيارات الثورية غير الإسلامية فى الفترة من ٢٠١١ وحتى ٢٠١٢ والتى لم تصل معظمها إلى السلطة، وإن كانت فى تلك الفترة تمتعت بحضور إعلامى قوى، فضلا عن تمثيلها من خلال بعض المقاعد المحدودة فى مجلسى الشعب والشورى، وهى فى المعظم لم تكن لديها بدائل محددة للسياسات العامة تتخطى الشعارات، ومن امتلك منهم تلك البدائل لم يتمكن من تنفيذها. ثم القوى الإسلامية بشكل جزئى من ٢٠١١ وحتى ٢٠١٢ ثم وبشكل أكبر من ٢٠١٢ وحتى ٢٠١٣ وقدمت جميعا بدائل جزئية حالمة فى معظم محتواها، فضلا عن خواء بعض البدائل الأخرى التى قدمتها من أى مضمون. وأخيرا القوى «المدنية» التى وصلت إلى السلطة بعد يونيو ٢٠١٣ ولمدة عام كامل كان أداؤها مجرد صفر!

***

حتى تتمكن القوى المعارضة إذن من النجاح مستقبلا لو قدر لها الحكم أو المشاركة فيه فإن هذا يستلزم أن يكون لها مشروع متكامل لتقديم بدائل للسياسات العامة الحالية وخصوصا فى ثمانية مجالات: السياسات المالية والاقتصادية والتوزيعية، سياسات الصحة والضمانات الاجتماعية، سياسات التعليم والبحث العلمى والشباب، سياسات البيئة والبنية التحتية، السياسات المتعلقة بالعدالة والأمن، سياسات الاستثمار والسياحة والتنمية المستدامة، سياسات التحول الديموقراطى والمجتمع المدنى وحقوق الإنسان، فضلا عن السياسات الخارجية سواء تلك المتعلقة بالدول أو بالإقليم أو بالقضايا الدولية أو بالمنظمات الدولية والفاعليين من غير الدول.

المجالات سالفة الذكر قطعا غير منفصلة عن بعضها البعض، كما أنها قد تكون خاضعة لبعض التعديلات بالإضافة أو الدمج بحسب ما تقتضيه اللحظة، ولكن المطلوب من أى تيار قبل أن يطرح نفسه بديلا وينشغل بأضواء الإعلام وإحصاءات مواقع التواصل أو حتى قبل أن يقدم أثمانا قد يكون بعضها مؤلما فى ظل الظروف السياسية الحالية، أن يجهز محتوى هذه السياسات من خلال بذل خمسة مستويات مختلفة من الجهد:

أولا: جهد مرتبط بماهية الظروف السياسية المحيطة بتطبيق هذه البدائل، هذا جهد مهم لأنه يرتبط مباشرة بتحديد مساحة الإصلاح وعمق تغيير محتوى السياسات الحالية، وتحديد الأطراف المطلوب التحالف معها وقت الشروع فى تنفيذ هذه البدائل ومن ثم مساحة التفاوض وحجم التنازلات المقدمة فى سبيل كل ذلك. تحديد طبيعة الظروف السياسية يتطلب رؤية واقعية لوضع البيئة الداخلية للتغيير (موقع مؤسسات الدولة ومدى استعداها للتحالف أو التفاوض، الأوضاع الأمنية الداخلية، المزاج العام للمواطنين..إلخ). كذلك فإن العمل على هذا المستوى يرتبط بطبيعة التغيير السياسى والذى أوصل المعارضة إلى السلطة أو جعلها مشاركة فيها. وأخيرا فإن هذه الظروف السياسية ستحدد أيضا أولويات تطبيق هذه البدائل، لأنه من الناحية العملية لا يمكن تطبيق كل البدائل للسياسات العامة دفعة واحدة، ولكن الظروف السياسية المحيطة تحدد وبقوة مدى إلحاح تطبيق هذه البدائل دون تلك. يرتبط هذا المستوى من العمل أيضا بالظروف الإقليمية والدولية وخاصة لو تعلقت البدائل بالسياسات الخارجية أو سياسات الأمن القومى.

ثانيا: جهد يتعلق بفلسفة هذه البدائل، هل هى فلسفة تقوم على الحد الأدنى لتدخل الدولة/السلطة؟ أم على التدخل المطلق للدولة بأسلوب الاستحواذ والتأميم؟ أم على المسئولية الاجتماعية للدولة بحيث يكون هناك توازن بين الإدارة العليا والتنفيذية والملكية..إلخ؟ هل ــ مثلا ــ تعتمد بدائل سياسات التعليم فى مجال تكلفة الخدمة وإدارتها على خصخصة القطاع بالكامل أم على تأميمه بالكامل أم على خصخصته مع ضمان تدخل الدولة بحصة من الملكية والإدارة بحيث تحفظ حق التعليم للطبقات والفئات الأقل حظا؟

***

ثالثا: جهد متعلق بظروف البيئة الداخلية للتغيير! فلا يكفى مثلا أن تقول إنك تريد تغيير سياسات الصحة بحيث تعلى من مستوى وقدرة سياسات التأمين الصحى على دعم المواطنين كافة، ولكن أن تحتاج أولا أن تعى أن تغيير سياسات الصحة يرتبط بظروف المؤسسات أولا، من أول ديوان عام الوزارة فى القاهرة مرورا بمديريات الصحة فى المحافظات وصولا إلى المراكز الصحية فى القرى والنجوع! كما أن التغيير أيضا يرتبط بالعناصر البشرية العاملة فى هذه المجالات من موظفين إداريين وأطباء وتمريض، وما يطويه ذلك من وضع تصورات وتوقيتات زمنية للتعامل مع هذه المؤسسات وهؤلاء الأفراد وما يعنيه ذلك أيضا من التعامل مع ثقافة وتقاليد عمل ومصالح كلية وجزئية لشبكة فاعلين مرتبطين بهذه السياسات (شركات الأدوية، أصحاب المستشفيات الاستثمارية) وكذلك التعامل مع المؤسسات المدافعة عن حقوق الأطباء والتمريض.. إلخ.

رابعا: جهود تتعلق بالتكلفة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لهذه البدائل! فقد يكون البديل لإصلاح الجهاز الإدارى للدولة مثلا بعد دراسة جادة ومتعمقة هو أن يتم تقليص عدد أفراد الجهاز بمليون موظف مع استبدال ربع هذا العدد بموظفين أكفاء! ما هى تكلفة ذلك؟ الاستغناء عن ٧٥٠ ألف موظف يعنى تقليص دخول ٧٥٠ ألف أسرة أى ما يقرب من ٤ ملايين مواطن! أين سيذهب هؤلاء؟ هل هناك دخول بديلة؟ هل هناك قدرة على تحمل كل ذلك سياسيا؟ كيف يمكن استقدام ربع مليون موظف شاب كفء؟ ما هى المعايير؟ هل يمكن تقديم رواتب غير اعتيادية لهؤلاء من أجل القدرة على جذبهم من القطاع الخاص؟

خامسا: جهود تتعلق بالآليات التنفيذية وتوقيتات تطبيق هذه البدائل! ويعنى ذلك تجهيز ثلاث أجندات للعمل، أولا الأجندة التشريعية والتى ستتعلق بمجموعة القوانين التى يجب تغييرها/تعديلها/اقتراحها وما يرتبط بذلك من وضع تصورات للأفراد، التيارات، الأحزاب، التحالفات الموجودة داخل البرلمان ومدى إمكانية أن تتبنى هذه الأجندة وتوفر لها تصويتا لازما مع إمكانية التعديل أو التفاوض على المحتوى.

ثانيا: أجندة التنفيذ والتقييم على المستويات العليا ويتمثل هذا فى القدرة على تطبيق هذه البدائل على مستوى ديوان عام الوزارة أو المؤسسة المركزية المعنية أولا وإمكانية التنفيذ على مستويات المحافظات والمراكز الكبرى وهو ما يتطلب مسحا للموظفين فى كل هذه المستويات ومؤهلاتهم وكفاءاتهم وتحديد مدى قدراتهم على المراوغة مع وجود آليات تقييم دورية، ثم تأتى الأجندة الأخيرة المتعلقة بالكيفية الفعلية التى تصل فيها هذه البدائل إلى المواطنين على المستويات الفردية وما قد يعيق ذلك أو يحده من عوامل مثل التربيطات العائلية، التدخلات الأمنية، السياسات الزبائنية، الوساطة والمحسوبية والفساد..إلخ.

***

بذل الجهد لطرح البديل على الرأى العام وجذب أنظار الإعلام أمر مهم لكنه غير كاف، فبالإضافة لجهود المأسسة والتى تعد الاختبار الأول لحقيقة تبنى هذه التيارات للقيم والآليات الديموقراطية، فإن وجود محتوى جاد وواقعى وشامل يرتبط بتقديم بدائل للسياسات العامة يراعى المستويات الخمس السابقة هو أحد المعايير التى ستحسم قدرة هذه التيارات على النجاح والتغيير لو قدر لها الوصول إلى السلطة يوما ما.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved