كلام فى الدستور

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 27 أغسطس 2017 - 9:25 م بتوقيت القاهرة

الدستور مسألة شرعية.
هذه حقيقة أولى فى أى سجال حول التعديلات الدستورية المقترحة من بعض النواب لا يصح تجاهلها، أو الاستخفاف بتبعاتها.
والدستور مسألة عقد اجتماعى.
هذه حقيقة ثانية تتطلب التوافق الوطنى والرضا العام قبل الإقدام على أى تعديل، وإلا فإنه إخلال بالاستقرار الضرورى لمواجهة التحديات والأزمات التى تعترض مصر الآن.
ولكل دستور فلسفته التى تتسق مع حقائق عصره.
هذه حقيقة ثالثة إذا ما شوهت تزهق روحه.
بلغة الحقائق فإنه يصعب تجاوز فلسفة الدستور وروحه دون أثمان باهظة بالنظر إلى عمق جذريه.
الجذر الأول ـ طلب الانتقال إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة على ما دعت ثورتا «يناير» و«يونيو».
لم يخترع أحد ذلك الطلب من فراغ سياسى ولا طرأت فكرته فجأة فى مداولات اللجنة، التى خولت وضع الدستور.
فى «يناير» تبدت بالشوارع الغاضبة أهداف عامة تتبنى الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، لكنها افتقدت أى تحديد للمقصود بها.
وكان ذلك طبيعيا فى أجواء الثورة، غير أنه أفضى إلى اختلاط مريع فى الأوراق، إذ كان ممكنا ـ على سبيل المثال ـ أن يردد الجميع، بغض النظر عن مواقعهم الاجتماعية والفكرية، الالتزام بقضية العدل الاجتماعى دون أن يقول أحد ماذا يقصد بالضبط؟
الأمر نفسه انصرف إلى طبيعة الدولة، وأيهما له الأولوية الدستور أم الانتخابات، ومدى الالتزام بالقواعد الديمقراطية فى ممارسة الحكم.
فى ضباب العبارات العامة جرى اختطاف «يناير» من جماعة «الإخوان».
لأسباب أخرى جرى اختطاف «يونيو» من أشباح الماضى.
قوة دستور (٢٠١٤) تعود إلى اتساقه مع طلب التغيير ونصوصه المنضبطة فى توصيف طبيعة الدولة ونظام الحكم والتوازن بين السلطات، بحيث لا تتغول واحدة على أخرى ومدى ما يوفره من ضمانات سياسية واجتماعية.
حسب مادته الخامسة فإن «نظام الحكم يقوم على أساس التعددية السياسية والحزبية والتداول السلمى للسلطة والفصل بين السلطات والتوازن بينها وتلازم المسئولية مع السلطة واحترام حقوق الإنسان وحرياته».
جذر «يناير» و«يونيو» امتد بتأثيره إلى الحريات العامة والحقوق الاجتماعية والثقافية الواسعة وغير المسبوقة، التى انطوى عليها الدستور المصرى فى طبعته الأخيرة.
لم يكن ذلك منحة من أحد بقدر ما كان تعبيرا عن حقائق المشهد المصرى فى تطلعه إلى مغادرة الماضى بكل سياساته وأساليبه.
استقلال الجامعات واستقلال القضاء والتزام الشرطة «بما يفرضه عليها الدستور والقانون من واجبات واحترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية»، بدت كلها تعبيرا عن تحول جوهرى فى النظر إلى طبيعة الدولة ـ أن تكون دستورية وعادلة، وللنص الدستورى قوته المعنوية التى لا يمكن التقليل من شأنها.
إذا لم يطبق اليوم فغدا، وإذا ما جرى تعديل بعض أحكامه ضد فلسفته فإنه فعل إنكار للتضحيات التى بذلت والرهانات التى حلقت ذات يوم فى الآفاق المفتوحة.
ليست هناك قداسة لدستور وتعديله ممكن إذا ما اقتضت الضرورة، شرط أن يكون هناك توافق وطنى واسع وألا يمس فلسفته التى تستند على جذر الثورة.
والجذر الثانى ـ حقائق العصر، كما تؤكدها الوثائق الدولية وتلح عليها ثورة الاتصالات والمعلومات.
هناك وثيقتان رئيسيتان أصدرتهما الأمم المتحدة، تحكمان إلى حد كبير التفكير الإنسانى المعاصر فى النظر إلى الخيارات والانحيازات الرئيسية لنظم الحكم.
بصورة أو أخرى فهما مرتبطتان، إذ لا يمكن فصل وثيقة الحقوق السياسية والمدنية عن وثيقة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
بنفس القدر يستحيل أى فصل فى الدساتير الديمقراطية بين ما هو سياسى وما هو اجتماعى، بين ما له صلة بتنظيم الدولة على أسس حديثة وضمانات الحريات العامة وما له صلة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإلا فإنه تجهيل بالعصر وإنكار لحقائقه.
لا حرية تتأسس على فقر مدقع ولا حقوق اجتماعية ممكنة فى ظل التهميش السياسى.
بنص الدستور: «يلتزم النظام الاقتصادى اجتماعيا بضمان تكافؤ الفرص والتوزيع العادل لعوائد التنمية وتقليل الفوارق بين الدخول والالتزام بحد أدنى للأجور والمعاشات يضمن الحياة الكريمة وبحد أقصى فى أجهزة الدولة لكل من يعمل بأجر».
ذلك كله يصعب تماما أن يضع قدمه على أرض إلا إذا كانت الحياة البرلمانية نشطة تخضع الحكومة فيها للرقابة والحساب والقوانين تصدر وفق الدستور لا بالمخالفة لأحكامه، والإعلام فعالا ومؤثرا.
عندما تتعطل الحياة النيابية عن ممارسة واجباتها، حتى أنه لم يستجوب وزير واحد حتى الآن، يتعطل فى الوقت نفسه أى رهان على أية عدالة اجتماعية منصوص عليها فى الدستور.
وعندما يتوقف الإعلام عن دوره، فالمجتمع كله فى انكشاف على المستويات كافة، الاجتماعى قبل السياسى والاستراتيجى قبل الأمنى.
‫«‬لكل مواطن الحق فى الصحة وفى الرعاية الصحية المتكاملة وفقا لمعايير الجودة».‬‬
هكذا ينص الالتزام الدستورى، لكن أحوال المستشفيات العامة والخدمة الصحية تناقضه.
الصحة مجرد مثال، والمصرى العادى لا يحتاج إلى أى شروح مستفيضة فى العدل الاجتماعى، فهو قد دأب لقرون طويلة على تلخيص أمانيه فى الحياة بدوام «الصحة والستر» ـ ألا يداهمه مرض ينتقص من قدرته على العمل وتوفير احتياجات أسرته ويعجزه عن دفع تكاليف العلاج، وألا يشعر تحت سيف الفقر بذل السؤال.
عندما تسد القنوات السياسية والاجتماعية من أسوأ ما يحدث تراجع الرهان العام على «المصير الجماعى» وارتفاع منسوب رهانات «المصير الفردى» كفيضان، ولو على حساب مجتمعه.
هناك أعداد متزايدة من الأجيال الجديدة تتطلع إلى الهجرة خارج البلاد يأسا من أى دور يلعبونه وأى إسهام يشاركون فيه ـ وهذه خسارة كبيرة لبلد يحتاج أبناءه الموهوبين للنهوض بشأنه. 
وهناك أعداد أخرى قد تلتحق من باب اليأس بجماعات العنف والإرهاب، أو تتورط فى الجرائم الجنائية ـ وهذه مسألة منهكة للأمن تسحب من رصيد الاستقرار اللازم لحركة الاقتصاد وتنشيط السياحة.
وهناك أعداد ثالثة، يصعب حصرها، تراهن على «ضربة حظ»، كالتى يوفرها «زهر الطاولة»، لـ«ركوب أول موجة فى سكة الأموال» ـ كما تقول أغنية شعبية حققت نجاحا غير مسبوق فى معدلات مشاهدتها والاستماع إليها على شبكة التواصل الاجتماعى.
الظاهرة تستحق نظرة علمية فاحصة من علماء الاجتماع، لنعرف أين وجه الخلل بالضبط فى اتساع الاستجابة العامة لأغنية «لو لعبت يا زهر»، فى مصر وعالمها العربى، عند الأغنياء كما عند الفقراء!
لماذا تراجع إلى هذا الحد التعويل على الجهد الإنسانى والعمل المضنى والتخطيط المتقن والأولويات الحقيقية فى طلب الخروج من الأزمات الاقتصادية؟
إحدى الإجابات الأساسية عدم تطبيق الدستور، بفلسفته وروحه ونصوصه المنفتحة على حقائق مجتمعها وعصرها.
الذين يطالبون بتعديل الدستور قبل تطبيقه يمنعون عن مصر حقها فى تحسين البيئة العامة حتى تنهض من جديد.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved