عندما تكون الحرية (على الريحة)

أميمة كمال
أميمة كمال

آخر تحديث: الأحد 27 سبتمبر 2009 - 10:59 ص بتوقيت القاهرة

 سبحان مغير الأحوال.. فى هذه الآونة من العام الماضى كانت شركات الصناعات الغذائية من القطاع الخاص تشن حملة منظمة ضد السكر المنتج فى شركات القطاع العام متهمة إياه بأنه يحتوى على برادة حديد وغير مطابق للمواصفات التى تصلح لإنتاج الشيكولاتات والبسكوتات والمربات والحلويات، والتى قد تؤذى أطفالنا لو أدخلنا فى صناعاتها هذا السكر المخالف للمواصفات.

وهو من جانب آخر، ما قد يعوق صادرات هذه الشركات الخاصة التى تخشى على سمعة مصر فى الخارج مثلما يخشى أصحابها على حبات عيونهم. وبذلك كانت الشركات الخاصة طيبة القلب، متيقظة الضمير تقدم المبرر تلو الآخر لانصرافها عن الشراء من هذه الشركات العامة، وتفضيلها الاستيراد من الخارج. ووقتها صدقها الكثيرون ولم يطالبها أحد أو يرغمها على شراء السكر، فكيف نأتمن شركات القطاع العام على صحة أطفالنا مادامت لا تحبهم، بل وتدس برادة الحديد فى السكر دون أن تخشى عليهم مثل القطاع الخاص. أما السبب الآخر الأقوى لعدم إرغامهم على الشراء فهو أننا نعيش فى ظل نظام سوق حرة يعطى الحرية لجميع الأطراف لكى تغنم من نعيمها.

إذن فليذهب إنتاج سكر القطاع العام إلى الجحيم من أجل صحة أطفالنا، وصحة السوق الحرة. وهذا ما حدث بالفعل فى العام الماضى تكدس السكر فى شركات القطاع العام، بل ووصل المخزون منه إلى مليون طن، بعد أن استورد التجار كميات كبيرة من السكر وباعوه فى السوق المحلية بأسعار تصل إلى 2450 جنيها للطن، بينما كانت تكلفته فى الشركات العامة تصل إلى 3300 جنيه.

ولذلك عجزت الشركات عن تصريفه واضطرت للبيع بأسعار تقل عن التكلفة بعد أن كانت أسعار البنجر قد ارتفعت من 270 جنيها إلى 400 جنيه للطن بسبب أيضا قوانين السوق الحرة التى أجبرت الجميع على رفع أسعار البنجر حتى يقبل المزارع على زراعته بعد ارتفاع أسعار المحاصيل الأخرى.

وفى خبطة واحدة زادت التكلفة على شركات القطاع العام بمقدار 700 جنيه فى إنتاج الطن الواحد. لأنه ببساطة كل 7 أطنان من البنجر تنتج طنا واحدا من السكر. وبذلك دفعت الشركات العامة ثمن السوق الحرة مرتين مرة عند تحملها ارتفاع أسعار البنجر بسبب مقتضيات السوق، ومرة أخرى عند تحملها انخفاض الأسعار العالمية.

هذا فى الوقت الذى توفر فيه إحدى الشركات العامة وهى (شركة السكر والصناعات التكاملية) 24 كيلو سكر فى السنة لكل فرد فى أسرة تحمل بطاقة تموينية وذلك بأسعار التكلفة، وحملة هذه البطاقات وصلوا الآن إلى ما يقرب من 65 مليونا، وبالطبع لا تحقق الشركة أرباحا من وراء كل هذه الكميات.

فى نفس الوقت كانت الشركات العامة تصرخ مستغيثة بالبنوك العامة لتمويلها من أجل شراء البنجر بعد أن عجزت مواردها عن ذلك، وبعد أن رفضت الحكومة أن تشاركها العبء بتحملها جزءا من ثمن شراء المحصول، ولكن قوانين السوق الحرة حالت دون ذلك، لأن البنوك لم تعد تتلقى أوامرها من أحد ولكن السوق وحدها هى التى تحركها، وهو ما جعل الشركات تلجأ إلى أحد البنوك الأجنبية لإقراضها.

وهنا كانت السوق الحرة فى صالح الجميع إلا شركات القطاع العام، فهى الوحيدة التى اكتوت من نار السوق الحرة، وفرض عليها أن تبيع بأسعار رخيصة استجابة لتلك السوق التى لا ترحم، بينما الشركات الخاصة بحثت عن الأرخص وغرفت من نعيم السوق الحرة حتى الثمالة.

ولكن سبحان مغير أحوال الدنيا والسوق أيضا. جاءت الأمطار الغزيرة هذا العام لتضرب محصول القصب فى الهند التى تعد ثانى أكبر دولة مصدرة للسكر فى العالم بعد البرازيل ليتراجع المعروض من السكر فى الخارج عن الاحتياجات الدولية، مما قفز بأسعاره على المستوى العالمى. وعاد الجميع ليلتفت إلى شركات القطاع العام مستنجدا بها وطالبا منها مره أخرى أن تكتوى بنار السوق وألا تغتنم من نعيمها. وأصبح مطلوبا من الشركات العامة أن تغض الطرف عن الأسعار العالمية، وألا تفكر فى تحقيق أرباح من جراء ارتفاع الأسعار فى الأسواق الدولية، وأن توفر احتياجات شركات الصناعات الغذائية من القطاع الخاص حتى لا يضطر أن يشترى من السوق الخارجية بأسعار مرتفعة.

وخرجت حملة جديدة من شركات القطاع الخاص ولكن هذه المرة تتهم القطاع العام بأنه يمارس الاحتكار، وبأنه لا يوفر السكر فى السوق المحلية بأسعار رخيصة. وخرست الألسنة تماما ولم نعد نسمع ولا كلمة واحدة عن برادة الحديد الموجودة فى السكر الذى تنتجه شركات القطاع العام، ولم يعد أحد يعنيه الحديث عن صحة أطفالنا ولا سمعة مصر فى الخارج.

والحقيقة أن حكاية السكر هذه تطرح علينا قضية مهمة يجب أن يتفق عليها أصحاب عقيدة السوق الحرة. فإما أن تجعلوا «السكر» عفوا أقصد «الحرية» زيادة أو مضبوطة، المهم ألا تجعلوها «على الريحة».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved