نساء الجزيرة ثم رجالها

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: الأحد 27 سبتمبر 2015 - 9:40 ص بتوقيت القاهرة

كلما مرت الحافلة بالدير الأشهر فى جزيرة إيجينا، على بعد نحو الساعة من العاصمة اليونانية ــ أثينا ــ رسمت النساء إشارة الصليب باستعجال، سائلات الغلبة والانتصار. حتى لو لم يذهبن جميعا للتصويت فى الانتخابات التشريعية المبكرة التى بلغت بها نسبة العزوف نحو 40%، لأنهن لا يجدن فرقا جوهريا بين اليمين واليسار، ويشعرن بأنهن تركن وحيدات لمجابهة الأزمة ولم يسألهن أحد رأيهن حين قررت الدولة الانضمام إلى منطقة اليورو، بداية عام 2001، إلا أن الشعور بالمسئولية لم يتركهن قط. غياب الرجال طويلا عن الجزر حين يخرج معظمهم إلى البحر جعل للنساء دورا هاما فى المحافظة على كيان الأسرة وصيرورة الأمور. وعندما اشتدت الأزمة ورجع الأزواج سواء للعمل بالسياحة أو لأنهم لا يجدون عملا أينما كانوا، ظلت المرأة هى المتحكمة وصاحبة القرار. هى التى قد تعرض منزلهم للبيع فى سرية تامة، ومن الأفضل أن يكون المشترى من الغرباء، كى لا يفتضح أمرهم وسط جزيرة صغيرة كل من عليها يعرفون بعضهم البعض بالاسم وتاريخ العائلة. وهى أيضا التى تدبر شئون الضرائب وتفاصيل الحياة اليومية، حينما يفقد زوجها نحو نصف معاشه من جراء الأزمة الاقتصادية التى ألمت بالبلاد منذ سنوات، إذ وصل حجم المديونية إلى 180% من إجمالى الناتج القومى، وتراجعت نسبة الاستثمارات نحو 65% مقارنة بسنة 2007.

تحاول أن تشد أزر ابنتها الجامعية التى كانت تعالج الناس نفسيا فى أثينا، مقابل 500 يورو فى الشهر، لكنها تحتاج حاليا لمن يضمها بين ذراعيه منذ أن فقدت وظيفتها قبل سنتين، مع تجاوز معدلات البطالة 25% من إجمالى القوة العاملة فى اليونان. وبالتالى لم تجد الابنة بديلا سوى الرجوع إلى كنف الأسرة والعيش مرة أخرى فى قرية بالقرب من مركز الجزيرة على بحر إيجة.

***
إيجينا هى واحدة من 1425 جزيرة داخل المياه الإقليمية اليونانية، عشرها فقط مأهول بالسكان، والباقى اكتفى بأن يكون نقطة تلاقٍ بين البحر والجبل. تعاريج الطبيعة وتضاريسها بأشجار الفستق والزيتون شكلت أيضا معالم شخصية البشر الذين يقطنون المكان، فصاروا على شاكلة هذه الجبال الوعرة ــ الخضراء فى آن، بكل مدرجاتها ومنحدراتها، لأن سلوك الناس غالبا ما يشبه طبيعة المنطقة التى يسكنون. لا أحد يرغب فى البوح بأسرار الآخرين ومشكلاتهم حفاظا على شرف الجزيرة وقراها الصغيرة المتجاورة التى يعيش أهلها بالقرب من العاصمة، لكن فى معزل عنها. يطل عليهم من أعلى الجبل معبد إلهة النور «أفيا» التى ترعى الجزيرة وينسب إليها أحيانا هبة شباك الصيد، لكنها لم تمنع أخيرا أن يصل ثمن كيلو «البربونى» (وهى تسمية يونانية بالأساس) إلى أكثر من عشرين يورو، فيكون الأغلى بين الأسماك، ولم تحم أصحاب السفن من الإفلاس.

من البحر تأتى لهم الخيرات: الأسماك، والبواخر التى يعمل عليها بعض السكان، والسائحين الذين يصلون بالمعدية كل ساعة تقريبا فيجلبون معهم اليوروهات والأخبار. ارتباط الأخبار بالعملة الأوروبية الموحدة ولعنتها هو بالفعل الشغل الشاغل لأناس فقدوا الكثير خلال السنوات القليلة الماضية، لكن لم يفقدوا ابتسامتهم وقدرتهم على الترحيب. عندما يجلس عجوز داخل متجره ويغلق بابه عليه، بعد أن خلا تماما من البضاعة، يحاول أن يرسم ابتسامة خفيفة على وجهه من خلف الزجاج، وقد اتكأ على كراسى بلاستيكية بيضاء لا تساعد أبدا على التكهن بطبيعة النشاط السالف للرجل. هو أيضا لا يستطيع التكهن بما هو قادم وبما قد تأتى به السفن. هل ستنجح الحكومة الائتلافية الجديدة التى شكلها حزب سيريزا اليسارى، بزعامة ألكسيس تسيبراس، مع حزب اليمين المستقل المحافظ «أنيل»، فى الخروج بالبلاد من عنق الزجاجة؟ أم سترجعهم المجموعة الاقتصادية إلى عملة الدراخما؟ وتحديدا إلى ورقة المائة ألف دراخما التى رسم على وجهها الخلفى معبد «أفيا» عام 1944، إبان الحرب العالمية الثانية، حينما عانت اليونان من تضخم شنيع.

***
يقول المثل اليونانى القديم: «لا يأمن المرء من ثلاثة أشياء فى هذا العالم: النار والمرأة والبحر»، هم بالفعل فى انتظار الأخبار التى تتوافد عليهم عبر البحر من أثينا، فى انتظار الاجتماعات المقبلة مع مجموعة اليورو فى الخامس من أكتوبر، يليها لقاء مجموعة العشرين فى مدينة ليما (بيرو) فى الثامن من الشهر نفسه. والنار كانت تشتعل من وقت لآخر فى الغابات المحيطة بالجزيرة بسبب الارتفاع الشديد فى درجات الحرارة، طوال الصيف. أما النساء فقد ظلمهن المثل.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved