الزلزال الكردى فى الإقليم

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأربعاء 27 سبتمبر 2017 - 10:00 م بتوقيت القاهرة

إثر استفتاء كردستان العراق تجاورت نزعتان قويتان ـ كأنهما من توابع زلزال ضرب الإقليم كله.

النزعة الأولى ـ خشية أن يفضى الانفصال الكردى إلى إعادة صياغة خرائط الإقليم وبناء دويلات جديدة على أنقاضه.

الكلام لم يعد مرسلا عن احتمالات تقسيم دول جوهرية وتمزيق روابط استقرت لحقب طويلة، فالخطر ماثل هنا وهناك، ولا أحد خارج نطاق ضربات الزلزال وتوابعه.

باستعارة أخرى فإن الزلزال الكردى أقرب إلى جراحات فى العراء بلا غرف عمليات وأدوات معقمة وأطباء مدربين، كأنه رهان على مجهول يدفع الإقليم إلى مواجهات واقتتالات قد تستغرق القرن الحادى والعشرين ـ كل تمزيق وارد وكل انهيار ممكن.
لعبة التقسيم بدأت ولا أحد يعرف كيف ستنتهى.

إذا ما وصلت اللعبة إلى آخرها فى العراق، وهذا احتمال لا يمكن استبعاده، فإن قيمته الاستراتيجية تتقوض إلى حد كبير، ولا يتبقى منه غير أطلال أدوار وأوزان كانت.

ليس مستبعدا أن يلحق الانفصال الكردى انفصالات أخرى على أسس مذهبية فى الجسد المثخن بالجراح ـ وهذا تصميم قديم ومعلن وخرائطه منشورة.

بالوضوح نفسه فهو طلب إسرائيلى أطلق عليه ذات يوم قريب «الشرق الأوسط الجديد»، الذى تبنته إدارات أمريكية بعد غزو العراق عام (٢٠٠٣).

لم تكن مصادفة أن ترفع أعلام إسرائيلية بجوار العلم الكردى فى أجواء الاستفتاء، فإسرائيل الدولة الوحيدة بالعالم التى تؤيد الانفصال وتسانده بمقتضى مصالحها الاستراتيجية لا إيمانها بمبدأ حق تقرير المصير، الذى تنكره على الفلسطينيين وتمارس بحقهم الإقصاء العنصرى والتوسع الاستيطانى.

بذات القدر لم تكن مصادفة أن تطل من على المنصات الكردية فى أربيل وجوه عنصرية مثل الفيلسوف الفرنسى «برنارد هنرى ليفى»، المعروف بتوجهاته الصهيونية المتطرفة، الذى يصف نفسه بأنه «الأب الروحى» للثورة الليبية، وقد لعب دورا محوريا فى دفع حلف «الناتو» ومراكز صناعة القرار فى فرنسا والولايات المتحدة بالتدخل العسكرى فى ليبيا باسم حماية المدنيين، الذين لم يأبه بمعاناتهم بعد أن خربت ليبيا كدولة ومجتمع.

ما الذى دعا «ليفى» إلى المجىء إلا أن يكون ذلك استكمالا لما يعتقد فيه من ضرورة تفكيك العالم العربى، وإنهاء قوة العراق بالذات إلى الأبد كمصدر تهديد محتمل لإسرائيل.

للهدف نفسه ظهر على المنصات الكردية وزير الخارجية الفرنسى الأسبق «برنارد كوشنير»، وهو يتبنى توجهات صهيونية مماثلة تساند مشروع التوسع الإسرائيلى دون تحفظ واحد.

هذه ليست إشارات عابرة بقدر ما هى تعبير عن جهد مقصود لتوظيف «الحلم الكردى فى الدولة»، وعمره يمتد إلى نحو قرن، لبناء «الشرق الأوسط الجديد»، الذى تكون إسرائيل فيه محور تفاعلاته الاستراتيجية والاقتصادية.

العراق مجرد بداية، فهو مهيأ أكثر من غيره لسيناريو التقسيم، لكن اللعبة لن تتوقف عنده.

سوريا أول خريطة تالية مرشحة لضربات الزلزال، وتقسيمها هدف بذاته بالنظر إلى قيمتها الاستراتيجية فى العالم العربى.

ذلك موضوع صراع سوف ترتفع وتيرته بين الجيش السورى و«قوات سوريا الديمقراطية» الكردية المدعومة أمريكيا.
قد تطرح ـ فى سيناريو ما ـ فكرة «الكونفدرالية»، أو «الإدارة الذاتية» فى سيناريو آخر، غير أن كل شىء سوف يتوقف على موازين القوى العسكرية على الأرض.

أهم الأسئلة هنا: ما حقيقة الموقف الأمريكى؟.. وإلى أى حد يمكنه المجازفة بصراعات مفتوحة فى الإقليم مع حليفه التركى، الذى ينظر إلى دولة كردية فى الشمال السورى كمسألة حياة أو موت حيث توجد على الجانب الآخر من الحدود أقلية كردية كبيرة فى حدود العشرين مليون نسمة؟

بصورة شبه مؤكدة الموقف الأمريكى مزدوج، يتحفظ على الاستفتاء الكردى فى العراق لكنه قد تكون له كلمة أخرى قبل إحكام الحصار على أربيل، لا يطرح علنا تقسيم سوريا لكن تحالفه العسكرى مع القوات الكردية يستهدف بالمقام الأول خلق حقائق على الأرض قبل أن يتمكن الجيش السورى من حسم المعركة مع «داعش».

ما هو جارٍ فى الكواليس أخطر مما هو ظاهر على السطح وحسابات القوى والمصالح سوف تغلب على سيناريوهات المستقبل.

هكذا تبدت النزعة الثانية على خلفية الاستفتاء الكردى فى إعادة ترتيب أوراق الضغط الممكنة من الدول الإقليمية مثل إيران وتركيا، التى تتحسب من تداعيات الزلزال وتوابعه على أمنها القومى ووحدة أراضيها.

ثمة توجه معلن لبناء تحالف بين الدولتين الإقليميتين الكبيرتين، أو رفع التنسيق أمام الخطر المشترك إلى مستويات غير مسبوقة، وضبط ردات الفعل المشتركة على ما تتبناه الحكومة المركزية فى بغداد.

لا يستبعد ـ بمنطق التحالفات ـ أن تدخل موسكو طرفا مساندا للإجراءات العقابية المنسقة، إذ إن رهانها الرئيسى فى إدارة الأزمة السورية بناء تفاهمات تجمعها إلى طهران واسطنبول وفق صيغة «أستانا»، التى تنظم مناطق «خفض التوتر»، وقد قطعت شوطا لا يستهان به.

من المتوقع أن تتزايد احتمالات الصفقات الكبرى فى الإقليم، وأن تمتد لأطراف ليست متداخلة فيها حتى الآن مثل مصر والسعودية.

بحكم خطر التقسيم واحتمالات تمدده إلى دول أخرى فى المشرق العربى فإن ما هو مستبعد قد يصبح واقعا قبل نهاية هذا العام.

بين خشية التقسيم الماثل وروح الصفقات الممكنة تتداخل اعتبارات وحسابات فى سيناريوهات ما بعد الزلزال الكردى، التى قد تميل ـ عمليا ـ إلى التصعيد التدريجى فى اختبارات القوة ومستويات الضغط الممكنة على أربيل.

فى الأزمة المفتوحة كل سيناريو وارد من فرض الحصار الاقتصادى وإغلاق المنافذ الحدودية وأجواء الطيران ووقف تصدير النفط عبر الأراضى التركية إلى إمكانية التدخل العسكرى المباشر سواء عبر الحدود أو بقوة عراقية تسيطر على المناطق المتنازع عليها، وأهمها كركوك الغنية بالنفط.

التلويح بالقوة العسكرية يصعب إنفاذه الآن بالنظر إلى الحرب على «داعش» وخشية جر الإقليم إلى الفوضى الكاملة، لكنه ليس مستبعدا فى أى مدى منظور.

لم يكن خفيا أن رئيس إقليم كردستان العراق «مسعود برزانى» وظف اللحظة التاريخية القلقة لاقتناص فرصة «الدولة»، فالحرب على «داعش» لم تصل نهايتها، والقوات العراقية منهكة فى حرب مدن وشوارع وأزقة متواصلة، والدولة نفسها يضربها الخلل الداخلى، ولا أحد فى العالم ـ تقريبا ـ مستعد لتقبل حرب جديدة فى الإقليم المشتعل بالنيران.

كانت تلك الحسابات صلب مجازفة «برزانى»، وقد نجح حتى ـ الآن ـ فى إضفاء شرعية شعبية على حكمه الذى يفتقده، فقد انتهت ولايته منذ عامين والبرلمان معطل واتهامات الفساد تلاحقه والانقسام يضرب مجتمعه، غير أن منطق المجازفات تعترضه حقائق الإقليم وأشباح العقوبات تحاصره بما هو فوق طاقة احتماله.

منذ البداية بنى لعبته على خلق أمر واقع يتفاوض على أساسه، رافضا أن يوقف الاستفتاء إلى حين إجراء حوارات جدية مع بغداد، ثم حاول ـ لامتصاص ردات الفعل الغاضبة ـ أن يخفف من صدمة الاستفتاء بوصفه أنه «استطلاع رأى» لا يؤسس إجراءات لانفصال عاجل.

بالمقابل فإن الحكومة المركزية ترفض ـ من حيث المبدأ ـ أى حوار، أو تفاوض، على أساس الاستفتاء ونتائجه، أو تقبل الانفصال.

بتلخيص ما الخيارات ضيقة والسيناريوهات مفتوحة والمجازفة قد تتحول إلى كابوس إقليمى، أو فخ كردى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved